إعادة تَشَكُّلِ النظام العربي بين ربيع الملكيات وخريف الجمهوريات الديكتاتورية، في ظل التسويق الإسلامي للنموذج التركي

مصر أم الدنيا، مصر قلب نظام العالم العربي، إنها اللازمة التي يجترها النظام العربي منذ الخمسينيات.

بعد ثورة يوليوز 1953 و صعود جمال عبد الناصر إلى الحكم باسم الضباط الأحرار عاش النظام العربي على المشروعية الشعبية للأنظمة الانقلابية أو ما يعرف بالعسكرتارية العربية، على اعتبار أن قضية الأمة العربية المركزية الأولى هي قضية فلسطين، و تحرير فلسطين تلزمه حروب وحروب، ومن هنا كان العقل الجماعي العربي يتقبل أن تحكمه الأنظمة الانقلابية التي تحولت إلى طبقة سياسية تستمد مشروعيتها من الحرب من أجل فلسطين.

يتذكر كل المتتبعين أن الحكومات المصرية في أيام عبد الناصر كانت مُشَكَّلَة أساسا من ضباط من الجيش المصري يسيرون قطاعات مدنية باسم تعبئة المجهود الحربي.

نجاح تجربة ناصر بعمقها الشعبي قبل الهزيمة جعلت العسكرتارية العربية تنقض على الأنظمة الملكية في أكثر من بلد في الشرق الأوسط، فحَكم العسكر على أنقاض الهاشميين في الشام والهلال الخصيب وآل حامي الدين في اليمن، وآل السنوسي في ليبيا، وتحكمت العسكرتارية في الجزائر وتونس وموريطانيا، إنه النظام العربي الذي لعبت فيه الجمهوريات العربية التي غيبت الحريات، والذي لم تكن الملكيات العربية في الخليج تلعب فيه إلا دور مول الشكارة، وسُمِحَ فيه فقط للمغرب بالمشاركة بوحدات قتالية في حرب أكتوبر بسيناء والجولان، الكلمة الأولى والأخيرة داخل النظام العربي كانت أولا وأخيرا للأنظمة الجمهورية أو ما يعرف بأنظمة التحرير العربية.

لقد شكلت هزيمة حرب يونيو 1967 أول نكسة للنظام العربي، الذي تحكمت فيه العسكرتارية العربية، ومع ذلك ظلت المشروعية الشعبية غير منقوضة، مما جعل رائدا في الجيش الليبي يستولي على الحكم وينهي مُلك المَلِك إدريس السنوسي في ليبيا ويحكم بعدها 42 عاما.

مرت أكثر من ستين عاما على النكبة، ولم تحقق العسكرتارية العربية أساس مشروعيتها في تحرير فلسطين، مصر اختارت طريقا آخر وعَقَدَتْ معاهدة صلح وخَرَجَتْ من الصراع، لكن وَرَثَة النظام الناصري لم يغيروا أساس المشروعية وظل خليفة السادات يحكم بمشروعية العبور وانتصار 6 أكتوبر 1973 ولم يسمح للمشروعية الديمقراطية أن تدخل النواة المركزية للنظام العربي، بل أكثر من ذلك سعى إلى مَأْسَسَة نظام التوريث الذي يشكل نقيضا لجوهر نظامه.

أما في سوريا فعائلة الأسد لم تحرر الجولان حتى تبقى لديها مشروعية الحرب من أجل التحرير، وتعطي المشروعية للرئيس الأسد الذي ورث الحكم عن والده العسكري، وفي نفس الوقت لم يجدد المشروعية الشعبية التي تسند نظامه الذي لا هو من العسكرتارية ولا هو من الديمقراطيات العربية.

انهيار نظام البعث في بغداد والاحتلال الأمريكي للعراق كان الثقب الأول في النظام العربي القديم، الذي تَحَمَّلَتْ قناة الجزيرة مسؤولية الدفع بانهياره بالكامل بعد حدث عَرَبَة البوعزيزي في تونس، وارتدت الأمور في البداية انهيار بعض أقطاب النظام العربي القديم المناهض لمصالح الدولة القطرية التي تسعى إلى لعب دور ريادي في العالم العربي، وكانت البداية في مصر التي تحالفت فيها قطر مع التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، وجندت الصحفي أحمد منصور الذي كان فاعلا في مركز قيادة الحركات الاحتجاجية الميدانية في سرداب تحت ميدان التحرير بالقاهرة، وساهم بشكل فعال في تأجيج الوضع من أجل انهيار نظام حسني مبارك بالإضافة إلى الشيخ القرضاوي الذي نزل بكل ثقة من أجل الانتصار لإستراتيجية بلده الثاني ضد بلد جنسيته الأصلية.

انهيار نظام حسني مبارك، كان لا بد أن يتبعه انهيار مشاغب القيادات العربية معمر القدافي، الذي يمثل مدرسة بدون إرث نظري للفوضوية السياسية في العالم العربي، وبعد أربعين عاما ردت الملكيات العربية الدين لنظام القدافي، الذي بعد انهياره تبين للجميع أن رجال الخيمة أو رجال الرئيس لم يكونوا إلا أبناءه وأبناء عشيرته، وواحد من الضباط الأحرار الذي ظل وفيا له كوزير للدفاع ومات معه يوم مقتله في سرت.

من المنتظر أن تكتمل الدائرة على من تبقى من الرؤساء الذين سرقوا حكم الملكيات العربية بنصف حل، في اليمن يغيب عبد الله صالح بنظام جديد ترعاه قبيلة حاشد وآل الأحمر ونظام جديد على أنقاض نظام آل الأسد في سوريا…

هناك نظام عربي جديد يوجد الآن قيد التشكل تنبني فيه المشروعيات على أساس أنظمة سياسية مبنية على توسيع هامش المشاركة والتمثيلية السياسية بضمانة من العسكرتارية العربية، التي أصبحت ملزمة بالتراجع إلى الصف الخلفي لفتح المجال لبناء مؤسسات مدنية ولو للواجهة، تحكم بمشروعية جديدة بعد انهيار مشروعية تحرير فلسطين التي عمرت لأكثر من 60 عاما.

ملامح النظام العربي الجديد تلعب فيه الملكيات العربية دورا محوريا باعتبارها رمزا لتماسك لحمة وحدة شعوبها على اعتبار أن مسألة الوحدة وضمان الوحدة الوطنية هو التحدي الأكبر للأنظمة الجمهورية التي عرفت انهيار المشروعيات القديمة، ففي مصر تواجه الدولة المصرية تحدي الحفاظ على الوحدة الوطنية بعد توالي المواجهات الدموية بين الأقلية القبطية والمسلمين، أما في العراق فألف عام بعد غياب صدام حسين لا زالت الدولة العراقية دولة عشائرية، رئاسة الدولة للأكراد ورئاسة الحكومة للشيعة ورئاسة البرلمان للسنة، وباقي الأقليات غير ممثلة وجغرافية العراق بدأت تأخذ ملامح ثلاث دول مستقبلية دولة كردية ودولة شيعية ودولة أخرى، إنه التفتت الآتي في الأفق الذي سوف تتخلص من مسؤوليته المباشرة أمريكا بعد انسحابها قبل متم دجنبر من السنة الجارية من العراق.

أما في ليبيا فبعد رمزية انهيار نظام القدافي الذي فكك الدولة ورعى العشائرية، فالتحدي الأكبر كان وسوف يبقى بناء دولة ليبية من جديد لا تزال ملامحها غير واضحة وغير مضمونة النتائج وسوف يشكل عدم استقرار ليبيا هاجسا أمنيا حقيقيا للنظام العربي في المرحلة المقبلة.

نظام الجماهيرية لم يكن له جيش نظامي بالمعنى الحقيقي للكلمة، ولكن مع ذلك كانت ليبيا هي الدولة الأكثر تسلحا في المنطقة خصوصا بما يتعلق بالأسلحة الفردية والصواريخ، ترسانة الأسلحة التي كانت في عهدة جماهيرية القدافي تبخرت بعد انهيار نظام العقيد في مارس 2011 وكثير منها وجدت طريقها إلى القاعدة وإلى الطوارق والمهربين في منطقة الساحل.

أكثر من ذلك النظام الليبي الانتقالي الحالي مكونه الأساسي والأكثر تنظيما ليس إلا قدماء مقاتلي القاعدة من الليبيين الذين يتحكمون في طرابلس ومصراتة وفي مقدمتهم الأمير الوطني السابق للجماعة الإسلامية المجاهدة الليبية عبد الحكيم بلحاج.

مقاتلو الجماعة المجاهدة الليبية كان لهم دور أساسي في حسم معركة مصراتة وطرابلس والآن سرت، فكيف يمكن تصور دولة ليبية مكونها الأساسي لا زالت في عنقه بيعة الملا عمر في أفغانستان؟ وكيف سيتعامل عبد الحكيم بلحاج مع فرع القاعدة في المغرب الإسلامي المتواجد في جنوب الجزائر وشمال مالي ويتحكم في جزء من المنطقة الخالية في جنوب ليبيا؟

 ذهاب معمر القدافي يشكل دافعا نفسيا فقط ولا يتجاوز الرمزية لأن سلطته كانت مبنية على محيطه المباشر، وعلى عشيرته وتحالفات مصلحية مع كبار باقي عشائر ليبيا المرشحة للتفتت بين الشرق والغرب والوسط إلا إذا قررت شركات شيل أو طوطال النزول عند القبائل من أجل وحدة ليبيا على أساس المصالح المشتركة، غير أن الاستثمارات النفطية الخارجية لن تتمتع باستقرار يؤمنها بالكامل ضد هجمات القاعدة في المغرب الإسلامي، التي وجدت الظروف الموضوعية من أجل الاستقواء في الحلقة الأضعف في المنطقة المغاربية ومنطقة الساحل بعدما كانت تراهن على النقطة الموريتانية.

فهل تشكل عودة الملكيات ضامنة الوحدة الوطنية إلى الجمهوريات المحتضرة على أساس رعاية أنظمة ديمقراطية أكثر تمثيلية، الحل الاستراتيجي الأسمى من أجل صياغة نظام عربي جديد ويعود الهاشميون إلى سوريا والعراق وآل السنوسي إلى ليبيا وآل حامي الدين إلى اليمن؟

النظام العربي الجديد يخضع إلى تأثير متنامي لورثة الدولة العثمانية في تركيا، الذين بحكم المرجعية الإسلامية يريدون العودة إلى التأثير في العالم العربي من خلال تنظيمات الإسلام السياسي التي بدأت تلعب في تونس ومصر وكذا المغرب عملية تجميل وتطمين باتجاه الناخبين، كما حدث في تونس عندما قرر حزب النهضة وريث حركة الاتجاه الإسلامي ترشيح امرأة بدون حجاب في العاصمة ودعا الزعيم التاريخي للحزب إلى تكوين حكومة وحدة وطنية في حالة فوزه في الانتخابات، وتوجه جماعة الإخوان المسلمين في مصر إلى عقد تحالف مرحلي مع العسكر بعدم تقديم مرشحهم إلى منصب رئاسة الجمهورية مقابل تسهيل الحصول على أغلبية برلمانية لقيادة الحكومة.

الترويج لإنجازات الحكومة التركية والدور التركي المتضامن مع غزة والمتراشق إعلاميا ودبلوماسيا مع إسرائيل، من أجل ضمان مشروعية جديدة للتيار الإسلامي هو مخطط تسعى من خلاله الولايات المتحدة الأمريكية إلى تسويق النموذج التركي على أنقاض النظام الطالباني في أفغانستان وباكستان.

أكورا بريس: بواب محراب أكورا العربي

Read Previous

تأسيس الفرع الجهوي بالرباط لنقابة الصحافيين المغاربة

Read Next

قالها “الكولونيل” عبد الله القادري: تحالف “جي 8” امتداد للفديك..