الحلقة 10 من مذكرات: مبارك وزمانه ..من المنصة إلى الميدان
بقلم: محمد حسنين هيكل
لم يكن العالم العربى فى أحسن أحواله وهو على وشك الدخول إلى فترة صعبة من تاريخه، والواقع أن السنوات العشر ما بين منتصف السبعينيات ومنتصف الثمانينيات كانت كارثية على العالم العربى,
وكانت البداية أن ذلك التحالف العربى الكبير الذى خاض حرب أكتوبر 1973، والذى كان بلا سابق فى التاريخ العربى الحديث، وكذلك بلا لاحق حتى هذه اللحظة ــ راح يتفكك جميعه وتتحلل روابطه.
فالحرب فى أكتوبر 1973 دارت بالسلاح على جبهتين: مصر وسوريا، واصطف وراء الجبهتين دعم شعوب الأمة كافة، وبإصرار عنيد ووراء الإصرار إمداد متدفق بالعتاد والمال وقوة النفط، وجاءت النتائج التى تحققت فى ميادين القتال فى مطالع المعركة باهرة ــ لكن الطرق تباينت وسط القتال!
وكذلك فإنه عندما توقفت المعارك ــ كان العالم العربى فى مأزق، لأن مصر آثرت أن تستكشف وحدها ما سُمى بطريق السلام.
ثم توالت العثرات: من الحرب الأهلية فى «لبنان» ــ إلى الحروب فى القرن الأفريقى بما أدى إلى تآكل دولة الصومال ــ إلى الصراع بين الجنوب والشمال فى السودان ــ إلى الحرب العراقية الإيرانية ــ إلى غزو «الكويت» ــ وبهذا وغيره فإن بنيان المشروع العربى والذى ظل واقفا رغم ما كان فيه من ثغرات ــ راح يتصدع، فعندما خرجت مصر بصلح منفرد مع إسرائيل سنحت الفرص لتجمعات إقليمية أو عائلية مكبوتة تحت ضغط الظروف، ولها مشروع تجمع دول الخليج تبتعد بها عن القلب العربى، تاركة له قضاياه الكبرى، آخذة معها ثرواتها الطائلة، وكذلك نشأت «منظمة التعاون الخليجى» وفى مقابلة أن اقترح العراق ما سُمى «مجلس التعاون العربى»، وفيها «العراق» و«الأردن» و«مصر» و«اليمن»، ثم جرى طرح ومناقشة اتحاد الدول المغاربية، ثم انقض الغزو العراقى لـ «الكويت»، وانفجر النظام العربى، حتى وإن حاولت الأشلاء أن تلتحق بالأشلاء!!
●●
الملك حسين مع هيكل
ومع أن السياسة المصرية فى ذلك الوقت كانت عضوا فى الاتحاد العربى الذى يجمعها مع العراق ويحولها هى والأردن إلى قاعدة خلفية للحرب ضد إيران ــ فإن ظروف العالم العربى وجواره ما لبثت أن أضافت بمستجدات ومضاعفات حمولات زائدة نزلت عليها، خصوصا معركة الجهاد ضد الإلحاد فى «أفغانستان»، وما فاض معها من مغانم راحت تتدفق فى المنطقة، وكانت هذه المغانم هى ما أخذ السياسة المصرية إلى تغيير تحالفاتها بسرعة، فغزو العراق للكويت أغرى السياسة المصرية بدور اتسع نطاقه واختلطت فيه المسالك، فإذا مقاومة غزو «الكويت» تفتح باب الذرائع لتدمير «العراق» نفسه من الانقسامات والتحالفات المتناقضة والمتغيرة، ومن الصراعات والحروب العبثية، كل هذا أزاح القضية الفلسطينية والصراع العربى الإسرائيلى إلى الأركان والهوامش!
وكانت تلك كلها أعراض أمراض لحقت بأمة ضيَّعت هويتها وذاكرتها وطريقها مهما شطحت الأوهام ببعض الأطراف!
●●●
وفى ذلك الوقت كنت قد وقَّعت عقدا مع دار «هاربر كولينز» (فى لندن ونيويورك) يشمل ثلاثة كتب عن الشرق الأوسط، وسألنى رئيس مجلس إدارتها («إيدى بيل») إذا كنت مستعدا لبدئها بكتاب عن تلك الحرب فى الخليج، ووافقت، وبدأت العمل فيه، ونشرت بعض الصحف فى مصر وخارجها أننى أكتب كتابا اخترت له عنوان Illusions of Triumph «أوهام القوة والنصر»!
●●
وذات صباح فى مكتبى، اتصل بى الرئيس «مبارك» بعد فترة انقطاع طويل، وبادر فسألنى دون مقدمات تقريبا:
«إنه قرأ فى إحدى الجرائد أننى سوف أذهب إلى «عمان» لمقابلة الملك «حسين»، «لأنك» تكتب كتابا عن حرب الخليج!».
وقلت للرئيس: «إن ما قرأه صحيح!».
وسألنى الرئيس: لماذا الملك «حسين»!
وقلت: «سوف أقابل كثيرين غيره، ولكن المسألة فيما يتعلق بالملك «حسين» إنه الرجل الذى بقى منذ غزو الكويت حتى ضرب العراق على اتصال بكل أطراف الأزمة، فقد ظل على صلة بـ «صدام حسين»، و«جورج بوش»، و«مارجريت تاتشر» دون انقطاع»!
وقال الرئيس «مبارك» معترضا:
ــ «أنت على خطأ فى ذلك، لأن «حسين» لم يكن الطرف الذى بقى على اتصال بالجميع حتى آخر لحظة، وإنما كنت أنا الذى ظل على اتصال بالجميع من أول لحظة حتى آخر لحظة».
وواصل الرئيس «مبارك» كلامه قائلا:
ــ «والملك «حسين» سوف يكذب عليك، وأنت تعرف ذلك!».
ومع أن عبارته أدهشتنى، فقد قلت:
ــ «أنه من حق الملك أن يقول ما يشاء، وعلىَّ أن أفرز ما أسمع، وعلى أى حال فإن الملك أبلغنى عن طريق رئيس ديوانه بأنه رغبة منه فى اطلاعى على الحقائق كاملة ــ فسوف يفتح أمامى كل الملفات دون تحفظ، أطلع فيها على ما أشاء».
وعلق الرئيس بما يعرف عن «اهتمامى بالورق»، ثم أضاف: «أنه بالقطع لا يعترض حقى فى مقابلة من أشاء»
●●
مبارك وصدام
وقصدت إلى «عمان» فعلا، والتقيت الملك «حسين» على يومين متواليين: فى اليوم الأول من الساعة الحادية عشرة صباحا حتى الثامنة مساء، وتغدينا معا فى قصر «الندوة»، والحديث متواصل، ورئيس ديوانه الأستاذ «عدنان أبوعودة» حاضر معنا معظم الوقت، وجاهز فور الطلب بالملفات والق
وعُدت إلى فندق «الإنتركونتننتال»، وفى انتظارى مجمع من الأصدقاء: ساسة ومفكرون وصحفيون، وعند منتصف الليل تلقيت اتصالا تليفونيا من الملك «حسين» يقول لى «إنه يعرف أننى عائد بالطائرة الأردنية ظهر غد إلى «القاهرة»، وأنه يقترح أن نتقابل مرة أخرى فى الساعة العاشرة صباحا فى قصر «الندوة»، وقلت للملك: «إننى على موعد أبلغت به قبل قليل مع ولى عهده الأمير «الحسن»، وهو ــ أيضا ــ فى الساعة العاشرة»، وقال الملك «حسين»: «إنه سوف يرتب الأمر مع الأمير «الحسن»، وسوف يقوم بالاعتذار عنى لولى العهد ــ لأنه هو شخصيا ــ «الملك حسين» ــ لديه بقية يراها ضرورية لاستكمال ما كنا نتحدث فيه (رغم أن حديثنا تواصل 9 ساعات)».
وكذلك كان، وعُدت إلى قصر «الندوة» فى الساعة العاشرة صباحا، وحتى الساعة الثانية عشرة ظهرا كان الملك منهمكا فى الشرح وفى الرواية ــ وأحس بقلقى وأنا أنظر فى ساعة يدى مخافة أن يفوتنى موعد الطائرة (الساعة الواحدة ظهرا)، وقال بسرعة: «سوف أريحك» ــ ورفع سماعة التليفون يأمر بتأجيل قيام طائرة القاهرة حتى أصل إلى المطار، وواصل الحديث وتجاوزت الساعة الثانية بعد الظهر، وكان الكلام مازال متواصلا
وبلغت سلم الطائرة فى الساعة الثانية والنصف، وكان ركابها قد جلسوا على مقاعدهم فى الموعد المقرر لقيامها، والطائرة بما فيها ــ أى بهم ــ فى مكانها على مدرج المطار، وركابها لا يعرفون سببا لتأخيرها، وقيل لهم إن السبب فنى، لكنهم لم يروا من حول الطائرة ما يدل على عملية صيانة، وطال انتظارهم حتى وصلت سيارتى أمام سلم الطائرة، وصعدت إليها، شاعرا بالحرج أكاد أغطى وجهى، ولا كيف أعتذر لكل هؤلاء الذين تأخروا بسببى، وأنقذنى قائد الطائرة تفضلا منه إذ رحَّب بى على ظهر طائرته، معتذرا للركاب بأننى كنت مع «جلالة الملك»، وأن التأخير كان «بأمر صاحب الجلالة!».
وكان رد الفعل لدى الرُكَّاب كريما ــ وتنفسْتُ الصعداء!
●
وبعد عودتى إلى «القاهرة» بثلاثة أيام تلقيت اتصالا من الرئيس «مبارك»، بدأه ــ كذلك ــ بغير مقدمات:
«هل كذب عليك (يقصد «الملك حسين»)، وروى لك ما يشاء لكى يبرر موقفه؟!».
ولم ينتظر بل استطرد:
«أنه سوف يفاجئنى بما لم أتوقعه، فقد تأكد له غرامى بالوثائق، أبحث فيها عن صورة الوقائع بنفسى، وقد قرر أن يطلعنى على أوراق الرئاسة (السرية)، وسوف يسمح لى بقراءة ما أشاء منها، شرط عدم تصويرها».
ثم واصل «مبارك» سائلا: «أليس «مصطفى الفقى» (سكرتير الرئيس للمعلومات) صديقك؟! ــ وقلت: «صحيح» ــ وقال: سوف أبعث «مصطفى الفقى» إليك ومعه الملفات، تطلع عليها فى حضوره، وكلما فرغت من جزء منها، عاد إليك بجزء جديد حتى تستوفى ما تريد».
«ما رأيك؟!».
وشكرت الرئيس «مبارك» بصدق على اهتمامه، ولم يمض نصف ساعة إلا واتصل بى الدكتور «مصطفى الفقى» ليقول: «إن الرئيس أمره بأن يطلعنى على الملفات السرية للرئاسة فى شأن حرب الخليج. واتفقنا على أن يمر علىَّ فى مكتبى غدا فى الساعة الواحدة بعد الظهر، ثم ينزل حتى يلحق بالإفطار (وكنا فى شهر رمضان)
وبعد هذا الموعد الأول تستطيع أن تحدد ما يليه.
●●●
وجاء الدكتور «مصطفى الفقى» فى موعدنا المتفق عليه، ومعه مساعد له يحمل حقيبة جلدية كبيرة متخمة بالملفات، وراح وهو يفتحها جالسا أمامى يقول:
«إن التعليمات لديه أن أقرأ ما أريد، ولكن لا أصور شيئا”
وبدا فاستخرج رزمة من «مسيرات الرئاسة»، وهى الدفاتر التى تسجل ــ ضمن ما تسجل ــ اتصالات الرئيس وما يتم تحريره فيها بعد هذه الاتصالات.
وانهمكت فى القراءة، والدكتور «مصطفى الفقى» جالس أمامى يتابع ملامحى مرات، ثم يقلب ملفات الحقيبة الجلدية مرات أخرى، أو يبدى ملاحظة مرحة سريعة، لكن الرجل ــ بيقظة سياسى خبير ــ أحس بشعور يراودنى، وأنا أقلب أوراق أحد الملفات واستعرض محتوياته بسرعة، وبدأ ينظر فى ساعته، وموعد المغرب يقترب، وهو مدعو للإفطار على مائدة أحد أصدقائه (كما قال).
وقررت اختصار الطرق، فقلت له بصراحة:
ــ «إننى أفضل أن لا أواصل قراءة هذه الأوراق، وهو يستطيع أن يأخذها معه الآن، وأظننى سوف أكتفى بما قرأت، لا أطلب مزيدا عليها يحمله إلىَّ كل يوم»
●●●
مظاهرات 18 و 19 يناير 1977
وبدت نظرة تساؤل فى عينى الدكتور «مصطفى الفقى»، وانعكست بسرعة على ملامح وجهه، وقد أراد استيضاح موقفى، وقلت بصراحة ما مؤداه: «أن ما قرأت من مسيرات الرئاسة، جعلنى أشعر أن هذه المسيرات مكتوبة بأثر رجعى، أى بعد الحوادث وليس أثناءها، وهذا يفقد المسيرات قيمتها، لأن الأهمية القصوى للمسيرات أن يكون تسجيلها أولا بأول، فإذا وقعت كتابتها ــ كما أحسست ــ بعد فوات أوانها، إذن فهى «محررة» «بتوجيه»، لكى ترسم صورة معينة قد لا تكون موافقة لحقيقة ما جرى!».
وسألنى الدكتور «الفقى» عما يدعونى إلى هذا الشك، وقلت بصراحة أيضا: «هذا ما شعرت به كرجل تعوَّد النظر فى الوثائق”.
وعاد الدكتور «الفقى» يسألنى: وماذا أقول للرئيس؟!
وقلت: «إننى أترك المشكلة لحصافته، لكنى أخشى إذا واصلت قراءة كل ما يحمله اليوم من أوراق ــ وما قد يحمله إلىَّ غدا وبعد غد ــ أن أكون قيدت نفسى أدبيا بمصدر لا أجده أمامى مقنعا، وأنا أفضل أن أكتب ما أكتب مستندا إلى ما أستطيع الوصول إليه، راضيا عن مصادره، أما إذا واصلت قراءة ما جاء به إلىَّ ولدىَّ شكوك فيه، فإن قراءتى له سوف تضع علىَّ قيدا ربما يلزمنى بما لم أقتنع به».
وأعاد الدكتور «مصطفى الفقى» أوراقه إلى الحقيبة الكبيرة، ودعا مساعده الذى كان ينتظرنا خارج مكتبى كى يجىء لحملها، ويسبق بها إلى السيارة، ومشيت بعدها مع الدكتور «مصطفى الفقى» إلى باب المكتب، منتظرا المصعد، وفجأة ــ وبصدق قدرته له ــ قال الرجل:
«أستاذ هيكل.. لا تعتمد فيما تكتب إلا على ما تثق فيه، ولا تسألنى أكثر من ذلك!»
وفى اليوم التالى كان هو الذى اتصل بى يبلغنى أن أخطر الرئيس بأننى اكتفيت بما قرأت مما حمل إلىَّ من ملفات الرئاسة، وأن الرئيس سأله، وهو بناء على ذلك يسألنى: هل الكتاب سوف يعكس وجهة نظرنا أو وجهة نظر الملك «حسين”.
وقلت له بصراح
ــ «لا وجهة نظركم، ولا وجهة نظر الملك «حسين»، وإنما هو مثل أى كتاب، يعكس جهد كاتب فى تقصى موضوعه، وهذا كل شىء!”
ولكن ذلك لم يكن كل شىء كما تمنيت، وإنما كان بداية حملة ضارية، فما أن صدر الكتاب، وتُرجم إلى اللغة العربية حتى قامت القيامة، وكانت المواقع الحساسة فى القصة، والتى دار عليها الجزء الأكبر من الخلاف ــ الذى قامت عليه القيامة ــ هي:
ــ متى نزلت القوات الأمريكية فى السعودية؟! ــ وهل كان ذلك قبل مؤتمر القمة، وباتفاق خاص مع الرئيس «مبارك» وغيره قبل مؤتمر القمة؟! ــ أو أن النزول الأمريكى كان بعد مؤتمر القمة، ونتيجة لدعوة منها؟
ــ ثم هل كان الهدف تحرير الكويت، أو أن تدمير العراق كان مطلوبا لضرورة أو مقصودا بسبق الإصرار؟! ــ وأخيرا هل كان نزول القوات الأمريكية فى الخليج وفى السعودية على هذا النطاق الواسع إجراء طوارئ، أو خريطة استراتيجية مستجدة؟!
ودار جدل طويل حول التناقض فى التصرفات والمواقيت، وصدرت فى مصر كتب رسمية بيضاء، وهى فى الحقيقة ملونة، وأشهد للدكتور «مصطفى الفقى» أنه أخذنى إلى ناحية أثناء عشاء التقينا فيه على مائدة أحد الأصدقاء المشتركين، لكى يقول لى همسا
«لا تجعل شيئا مما يُقال يضايقك، الحق كان معك، والواقع كما أعرفه من موقعى أفظع بكثير من أى شىء قلته فى كتابك.
●●
وكانت تلك لحظة تستحق الدراسة فى تاريخ مصر، فقد لاح وكأن مصر قد جرى تنويمها أو تخدي
كانت تلك لحظة تستحق أن يعيشها ويرصدها الفيلسوف الأكبر فى علوم السياسة وممارستها، وهو فيلسوف التنوير الأشهر «نيكولو ماكيافيللى» صاحب كتاب «الأمير”
كان «ماكيافيللى» فى شرحه للسياسة فى رسالته التى أهداها إلى أمير «فلورنسا» «لونزو العظيم» يعتبر أن الأمير يستطيع ممارسة السياسة فى عزلة عن الأخلاق”
وظُلم «ماكيافيللى» لأن بعض الناس سحبوا مقولاته على تصرفات البشر العاديين، فى حين أن «ماكيافيللى» كان يتحدث إلى الأمير وسياسات الأمير، أى أن حديثه للأمير كان بمفهوم الأزمنة الجديدة، حديثا إلى الدولة وعن سياساتها.
●●●
وفجأة مع اشتعال الحرب فى الخليج ومضت فرصة أمل، حتى وإن كانت على طريقة «ماكيافيللى» ــ تنفصل فيها السياسة عن الأخلاق!
ولسوء الحظ ــ أو لحسن الحظ ــ على طريقة «ماكيافيللى» ــ فإن حروب المنطقة جاءت «كوارث موفقة» (إذا جاز التعبير)، لأنها أتاحت ما بدا للبعض أنه فرصة للتغلب على «مصاعب مصرية»، بصرف النظر عن أى أحكام قيمة.
كان الاقتصاد المصرى مُثقلا ولم تكن أثقاله فى حاجة إلى جهد كبير لاستقراء أسبابها، وإنما كانت الأسباب عديدة
ــ الاقتصاد المصرى تحمَّل بأعباء مشروعات كبرى فى التنمية لم تعط بعد عائدها، أو لم تعط بعد هذا العائد كاملا.
ــ الاقتصاد المصرى تحمَّل بأعباء حرب 1967، وحرب الاستنزاف (والحقيقة أن القطاع العام كان السند الأكبر فى التعويض عن هذه الأعباء).
ــ ثم إن اتجاه مصر بعد حرب أكتوبر لم يستدع إليها ما هو تنتظره من مساعدات عربية، وأول أسباب خيبة التوقعات أن مصر حين انتهاء المعارك اختارت أن تتوجَّه إلى صلح منفرد مع إسرائيل.
ــ وكذلك وقع فى تلك اللحظة أن المساعدات الخارجية توقفت، فقد لمح المعسكر الشرقى بوادر التحول فى السياسة المصرية، وتمهَّل فيما يقدمه، وفى نفس الوقت فإن المعسكر الغربى ودولة الولايات المتحدة كان يريد أن يتأكد من ثبات هذه التحولات.
ــ وفى هذا التوقيت فإن الإغارة على القطاع العام بدأت، وأوله انقضاضها على التوكيلات وإرجاعها
ــ ثم إن الذين لم ترق لهم المقاومة الشعبية ضد الخصخصة، مع الطريقة التى طرحت بها وقتها، ونفذت بها فيما بعد ــ لجأوا إلى سياسات شبه تآمرية على هذا القطاع العام، فقد حجبوا عنه أى استثمارات جديدة، بينما ظل فائض أرباحه يذهب إلى حسابات الخزينة العامة.
ــ زاد على ذلك أنه فى أعقاب توقف معارك أكتوبر فقد أراد البعض أن يعوض نقص الموارد بزيادة الإيمان، لعل الدعاء يسد حاجة المحتاجين ــ أو يقنعهم بالزهد، برغم كل ما رأوه من غارات تنظم نفسها للانقضاض على النصيب الأكبر من الثروة الوطنية باسم «الانفتاح».
ــ وفى هذه الأجواء وقعت موجة هجرة فى الشباب، وفى الكفاءات، لأن التحولات فى العالم، والثروات المنهمرة فى الإقليم ــ لوَّحت باستعداد للاستجابة للوعد بأكثر مما تقدر عليه الأوضاع المحلية، خصوصا أن ظروف التعبئة العامة لسنوات سبع من 1967 ــ 1974 ــ أوقفت سفر البعثات الدراسية إلى الخارج، لأن شباب المؤهلات كان فى الخنادق!
ــ وكان الاحتجاج الشعبى الأكبر تلك الفترة وهى مظاهرات 18و19 يناير سنة 1977، قد ضاع صيحة فى الفراغ، ووقع علاجها أمنيا إلى درجة وصفها بأنها «انتفاضة حرامية»!
ــ ثم وقع اغتيال الرئيس «السادات» بموجة الإرهاب التى تلته، وبدت مصر بلدا غير مأمون فى أبسط الاحتمالات. وراح الاقتصاد المصرى يتدحرج إلى حافة الخطر.
●●●
حرب الخليج
ولست أعرف أن «مبارك» قرأ «ماكيافيللى»، لكنه فى حرب الخليج طبق آراءه خير تطبيق، بمعنى أنه يمكن أن يُقال باطمئنان أن مصر كانت تواجه موقفا اقتصاديا فى منتهى الصعوبة، فى جزء من الثمانينيات وعلى طول التسعينيات، ثم تكفَّلت حروب الإقليم وحرب الخليج بـ«رد الروح» إلى الاقتصاد المصرى، لأنها ببساطة جلبت له أموالا جديدة هرعت إلى نجدتها لتقدر على تنفيذ سياساتها على الأرض التى ظهرت بعد ذلك المنحنى على النهر، وبعد جهاد «أفغانستان»
وبعد ثورة «إيران»، وكل ما فى الحربين من تناقض ــ بدت المنطقة كلها وكأنها فى حالة انفصام فى الشخصية: «شيزوفرينيا»
ــ فى «أفغانستان» جهاد من أجل الإسلام، وفى «إيران» حرب ضد ثورة إسلامية
ــ والحرب فى «أفغانستان» ضد سلطة إسلامية سنية هى سلطة «طالبان» (التى كانت بدايتها فى الجهاد ضد الإلحاد)، لكن الحرب فى «إيران» حرب السنة ضد الشيعة
ــ والحرب فى «أفغانستان» كانت ضد منطق المحافظة المؤمنة فى «السنة».
ــ وفى إيران كانت الحرب ضد الثورة فى بلد «الشيعة»
وبصرف النظر عن المتناقضات، فإن التناقض دائما فرصة فيما تقول به دروس «ماكيافيللي”.
●●●
والحقيقة أن هذه المتناقضات فى المنطقة أحدثت درجة من الحمى فى دوران عجلة ثروة النفط والذهب، وفى أسلحة المخابرات الدولية والجهاد ضد الإلحاد، وذلك وفَّر لمصر فيضان من المساعدات لا يشك أحد أنه أنقذ اقتصا
وبناء على أرقام صندوق النقد الدولى فإن مصر جاءتها فى ظروف حرب الخليج وما بعدها مساعدات وهبات بلغت قيمتها 100 مليار دولار، وهى على النحو التالى:
ــ 30 مليارا إعفاء ديون مستحقة على مصر لدول أجنبية.
ــ 25 مليار دولار من الكويت.
ــ 10 مليارات دولار من السعودية.
ــ 10 مليارات دولار من دولة الإمارات
والباقى من مصادر متفرقة، وذلك بالإضافة إلى كثير من خدمات المخابرات والأمن والسلاح والتوريدات المقدمة إلى ما لا نهاية من الخدمات، وكله أعطى مصر صفحة اقتصادية جديدة مشجعة!
●●
حرب الخليج التانية
وهنا نقلة إلى اللحظة الراهنة أحكى فيها مشهدا مثيرا وقع لى فى باريس، فقد سألت أحد كبار الاقتصاديين المشهود لهم فى العالم عن الطريق الأمثل لحل المشكلة الاقتصادية المستعصية فى مصر، وأجابنى الرجل المشهود له عالميا:
ــ هناك طريقان: أحدهما طويل وصعب، والآخر سريع وسهل.
طريق طويل الآن يقتضى إجراءات حازمة وحاسمة، لأن التفريط فى الثروة عندكم كان مذهلا فى السنوات الخمس عشرة الأخيرة
وسكت الرجل وسألته باهتمام:
ــ وماذا عن الطريق السريع والسهلة
وكان رده وفى حضور واحد من أهم سفراء مصر فى العالم الخارجى ــ قوله
«الطريق السهل والسريع ــ حرب إقليمية فى الشرق الأوسط ــ حرب أخرى فى الشرق الأوسط تنقذ مصر على نحو ما سبق فى حرب الخليج!!».
●●●
والشاهد أن تلك اللحظة كانت نقطة تحول كبير فى توجهات «مبارك»، فقد وجد أطرافا تطلب تقوية دوره فى المنطقة وتوظيفه، بحيث يأخذ معه «وضع» مصر فى الإقليم كله إلى حيث يريد وكما يشاء، وكانت تلك البداية فى مطلب تأييد حكمه طول حياته، مسنودا بقوى دولية وإقليمية، وكان ــ وحتى دون أن يقصد أحد ــ تمهيدا منطقيا لورود فكرة التوريث على البال، فـ «مبارك» الآن يؤدى دورا، وهو يسحب مصر وراءه فى أدائه، ومن المهم أن يستمر ذلك، ولا شىء يحقق ضمان استمراره لأطول مدى إلا أن يكون الابن استمرارا للأب، أو على الأقل لتأكيد الاستمرار على نفس الطريق!
●●●
لكن المشكلة أن حل مشكلات مصر على طريقة «ماكيافيللى» لم ينجح، لسبب واضح وهو أن جماعات المصالح التى أحاطت بالأب، وزحفت مع الابن ــ تحولت إلى سرب جراد أتى على ما جاءت به السياسة، متحررة من الأخلاق على طريقة «ماكيافيللى»، أى أن الوعاء الاقتصادى الذى امتلأ بالسيولة بعد حرب الخليج، جرى تفريغه بالنهب بعدها!
أكورا بريس: عن موقع “بوابة الشروق”