تختلف الآراء بين الموروث الثقافي الشعبي والأبحاث الطبية والعلمية وآراء علماء الدين والفقهاء حول ظاهرة “الراقد”، وأعراف قديمة. فلازال كثير من المغاربة يؤمنون بها ويدافعون عنها، بينهم أميون ومتعلمون.
يتضمن هذا الروبورطاج شهادات حية عن “الراقد” وتقدم مختلف وجهات نظر الفقه والعلم والسوسيولوجيا حول الظاهرة
“كنت جنينا راقدا، ولدت بعد مرور 5 سنوات من الحمل، إذ كانت والدتي عند كل حمل تلد بعد مرور 5 سنوات”، بهده العبارة تحدثت إلينا سيدة في عقدها الثالث، حاصلة على دبلوم الدراسات العليا، ولم يمنعها تكوينها الأكاديمي من اعتقادها الراسخ بظاهرة “الراكد”، وتقديم نفسها نموذجا حيا للظاهرة. إيمانها الراسخ جعلها تسترسل يفثي عرض الأمثلة.. “أختي ولدت بعد سنة من تاريخ الحمل، وهي الآن في الأربعينيات، صديقة لي هي الأخرى ولدت بعد سنتين من وفاة والدها.. الراقد حقيقة وهو من المسلمات الراسخة في ثقافتنا الشعبية.
– اعتقاد راسخ
لقد أصبحت ظاهرة الحمل الراقد من المسلمات التي يؤمن بها المغاربة، في إطار موروثنا الثقافي الشعبي ، اعتقادا منهم أن الجنين يمكنه أن “ينام” بسلام في بطن أمه، و”يستيقظ” في يوم من الأيام في غفلة منها أو بفعل تميمة.
“أمي الحاجة” هي الأخرى لها قصة مع “الراقد”، فهذه السيدة توفي زوجها منذ ما يربو عن 30 سنة، تاركا وراءه 5 أطفال وجنينا ذكرا راقدا في بطن أمه، “استيقظ” بعد مرور سنة تقريبا على وفاة زوجها. وتعود تفاصيل حكاية “أمي الحاجة” مع الراقد إلى بداية السبعينيات، حيث تقول: “كنا نعيش أنا وزوجي وأبنائي الخمسة وصهرين آخرين وزوجتيهما وأولادهما في بيت حماتي التي توفي زوجها بضواحي مدينة سطات”، تصمت قليلا لتستطرد بالقول: “كان راجلي مريض وماكنتش باغية نزيد الأولاد، عندي 5 باراكا، إمكانياتي ضعيفة والمعيشة غالية، صراحة بغيت نطيحو ولكن راجلي رفض، فكرت باش نمشي للفقيه ونركدو حتى يكبرو خوتو شوية”!
كانت الحاجة عائشة تتكلم عن ابنها “الراقد” بقناعة وإيمان راسخ، لتشرح لنا بعد ذلك كيف أن تميمة “الفقيه” لها قدرة خارقة على تنويم الجنين في البطن، لتشرح لنا بعد ذلك كيف أن تميمة الفقيه لها قدرة خارقة على تنويم الجنين في البطن إلى أجل مسمى، وكيف أن ابنها الراقد “استيقظ” وأتم نموه الطبيعي وولد بصحة جيدة، وهو الآن يمارس عمله كإطار بنكي.
وإذا كان الناس قد درجوا على أن مدة حمل الجنين البشري هي في حدود تسعة شهور قمرية، وجاء علم الأجنة في القرن العشرين ليؤكد أن أقل مدة للحمل هي ستة شهور قمرية (أي 177 يوما) من لحظة الإخصاب، وأن الجنين إذا ولد لستة شهور فإنه قابل للحياة لأن كافة أجهزة وأعضاء جسمه يكون خلقها قد اكتمل مع نهاية الأسبوع الثامن من لحظة الإخصاب، فإن الغريب في الموضوع أن الناس في بعض مناطق المغرب لازالوا يؤمنون بالحمل الراقد أو المستكن، أي بقاء الجنين في بطن أمه لسنوات، وهذا الاعتقاد يعتمد، في أحد جوانبه، على فتاوى لبعض كبار العلماء الموجودة في كتب فقهية قديمة.
ظاهرة لا أساس علمي لها
وبين العلم والفقه وعلم الاجتماع تختلف المواقف وتتقاطع بشأن ظاهرة الحمل الراقد. وفي هذا الإطار يؤكد الدكتور محمد عبور أن “ظاهرة الحمل الراقد أو المستكن نابعة من الثقافة الشعبية منذ القدم، لكن إذا أخذنا كل الدراسات العلمية الطبية فيمكن القول إنه لا أساس لهذه الظاهرة”.
وفي خضم التطورات العلمية الهائلة في هذا المجال، لا تتفق مع هذه الحالات التي تتحدث عن الاحتفاظ بالجنين أكثر من المدة الطبيعية للحمل، مشيرا إلى أن الجنين يبدأ منذ تلقيح بويضة المرأة بالحيوان المنوي للرجل، وإذا كان الحمل ينمو بشكل طبيعي بدون مشاكل صحية أو إعاقات تمنع تطوره، فإن مدته تصل من 37 إلى 39 أسبوعا، أي ما يعادل 9 شهور كاملة، ويمكن أن يصل إلى 40 أو 41 أسبوعا، ولو أن المرأة لم يأتها المخاض، فإنه يتم اللجوء إلى مخاض اصطناعي حفاظا على حياتها، أما إذا وصل إلى 42 أو 44 أسبوعا، فإن الجنين سيموت لا محالة، نظرا لتلاشي المشيمة وتهتكها بعد 9 أشهر، وبهذا ينعدم الأوكسجين والتغذية، مما يجعل موت الجنين أمرا حتميا. أما إذا وقعت بعض الحالات الاستثنائية، فإنه بإمكان الحمل أن يتوقف في أية مدة زمنية قبل المدة الطبيعية (9 أشهر)، فيتم في هذه الحالات اعتماد إجهاض طبيعي بعد موت الجنين، حسب الدكتور عبور.
وبالرجوع إلى الدراسات والعلوم الطبية، نجد أن هناك ثلاث حالات لنمو الجنين خارج الرحم خطأ:
الحالة الأولى: يكون فيها النمو داخل الخرطوم، وهي تمثل 2% من مجموع نسبة الحوامل، حيث يتم فيه تمزق الخرطوم، وينتج عنه ظهور نزيف دموي حاد داخل المبيض، والذي يشكل خطورة على حياة المرأة، مما يستدعي إجراء عملية جراحية استعجالية.
أما الحالة الثانية، فيها النمو داخل المبيض، وهي حالة نادرة لها نفس عواقب الحالة الأولى، وهي الأخرى تتطلب عملية استعجالية.
يكون النمو داخل البطن، وهي حالة نادرة جدا، يكون فيها نمو الجنين عاديا لكن لا يتعدى 6 أشهر، بعدها يموت لكنه يبقى متحجرا (mourifié) ومن المحتمل أن يبقى ميتا ومتحجرا لعدة سنوات.
وأضاف الدكتور عبور أنه “في ثقافتنا الشعبية، ونظرا لوضع المرأة داخل المجتمع كانت تعاني للحفاظ على مكانتها أو مشاكل اجتماعية خاصة، أصبح من المفروض إيجاد وسيلة تحميها وتبعدها عن كل التلميحات أو الشبهات باختلاق فكرة “، ووسائل للتشخيص من المستوى العالي يمكن أن تثبت أو تنفي هل هناك حمل أم لا؟ وفي حالة وجود حمل يمكن أن نحدد سن هذا الجنين والتاريخ الطبيعي المزمع لولادته، كذلك هناك الكشف بالحمض النووي الذي أصبح وسيلة مدعمة لتطابق نسب الجنين مع أبويه”.
وفيما ينفي العلم والطب وجود ما يسمى بـ”الحمل الراقد”، يرى علي شعباني، في علم الاجتماع، أنه “رغم إيمان العديد من الناس بهذه الظاهرة وحتى أن بعض المظاهر الثقافية والدينية تزكيها، فمن الناحية العلمية القضية فيها نوع من التحايل والخدعة، وماهي إلا وهم، وأنا شخصيا لا أومن بهذه الفكرة.
إلى أن هناك بعض المشاكل التي تطرح حول المرأة المتوفى عنها زوجها وليس لها وريث شرعي بالطرد أو سلب بعض حقوقها فتلجأ إلى الادعاء بأن لديها حمل راقد، حتى تتمكن من استيفاء حقوقها كاملة، وبالنسبة للمرأة المطلقة فهي تدخل فترة العدة الشرعية التي تدوم 4 أشهر و10 أيام ولا يحق لها الزواج قبل أن تكمل العدة تفاديا لعدم اختلاط الأنساب، فإن ظهر حمل في غير فترة العدة فهو غير شرعي، وتكون المرأة قد لجأت إلى هذه الوسيلة فقط لتغطية بعض الأخطاء التي تكون قد وقعت فيها ليس إلا، حسب شعباني.
وفي سؤالنا عن اتفاق الأئمة الأربعة حول وجود الحمل الراقد واختلافهم فقط في المدة التي يمكن أن يدوم فيها، أوضح شعباني أن: “الفقهاء يمكن أن يقولوا ما يريدون، لكن ما هي وسائل إثباتهم؟ فحاليا يوجد الطب للإثبات، والخطأ يمكن أن يقع في بعض الأسابيع أو الأيام وليس في السنوات”، مضيفا أن فكرة الجنين الراقد تبقى وهما وإسقاطا نفسيا واجتماعيا لواقع نساء يعانين القهر والحرمان في مجتمعات صعبة.
وفيما يخص استفسارنا عن رد فعل المواليد الذين تم إقناعهم بأنهم ولدوا بعد سنة أو أكثر من تاريخ الحمل إذا نحن قلنا لهم بأن الحمل الراقد وهم ولا أساس له من الصحة دون أن نجد لهم تفسيرا مقبولا أو دراسة حالات أو إجراء تحاليل وكل ما يلزم للوقوف على تحليل منطقي ومقبول لهذه الظاهرة. ألن نساهم في تشتيت العائلة وتكسير ركائزها المبنية على الثقة والوضوح، أفاد شعباني: “أنا لست مختصا حتى أفيدكم بشيء، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يحيي ويميت ويوقظ، وصعب أن نقول بأن كل من ولد بعد وفاة والده هو ابن زنا وأن أمه زانية، فهؤلاء من حقهم الاعتقاد كيفما شاءوا ولا يجب إطلاقا أن أزرع الشك في نفوسهم ولا يجب أن نرمي الناس بالباطل، فما يعتقده الناس شيء وما يثبته العلم شيء آخر، وهذا هو الفرق بين مجتمع متحضر وآخر متخلف يزكيه الدجل والشعوذة والأمية، ونحن مثقلون بمخلفات هذه التقاليد”.
– الأطباء هم من خطّأ العلماء
أكد الأستاذ محمد بنحمزة، عضو المجلس العلمي لوجدة، أن ظاهرة الحمل الراقد ليست خاصة بالثقافة المغربية فقط، بل هي ظاهرة عالمية ولها حضور في الثقافة العربية الإسلامية، وفي مختلف البلدان الأخرى، ولها تسميات تختلف باختلاف الثقافات ومنها الحمل الكاذب عند بعض الشعوب، والسبب في ذلك يرجع، حسب بنحمزة، إلى وقوع المرأة تحت رغبة شديدة في الإنجاب، سيما التي يتعذر عليها ذلك، فتتوهم نفسها حاملا، مما يؤثر عليها سيكولوجيا فيقع عندها اضطراب في الهرمونات يترتب عنه توقف الدورة الشهرية، ناهيك عن وسائل التشخيص التي كانت غائبة قديما فتسقط المرأة بذلك ضحية هذا الوهم.
وبالنسبة لاتفاق الأئمة الأربعة حول وجود ظاهرة الراقد، ذهب بنحمزة إلى القول إن: “هذه القضايا هي جسدية بالدرجة الأولى، حيث يكون الجسم هو الحكامة والفقهاء لما قالوا بوجود الراقد استندوا إلى الخبرة الطبية، وبالتالي فالخطأ هو على مستوى هذه الخبرة، إذ أن الحمل يمكن أن يزيد عن 9 أشهر بـ 10 أو 15 يوما فقط، وهذا حكم طبي مؤكد”، معللا بأن التشخيص بالصدى لم يكن موجودا في القديم، والأطباء هم الذين كانوا يوقعون العلماء في الخطأ، وهذا يجب تصحيحه، وهو ما تم بالفعل، حسب بنحمزة، إذ نجد في المادة 154 من مدونة الأسرة أن الحمل إذا وقع بعد سنة من الفراق أو وفاة الزوج لا يكون شرعيا.
حكايات… وطرائف…
رغم كل التفنيدات، فإن الحديث عن الراقد كان ولازال يأخذ بين بعض النساء طابع الجزم والإيمان القاطع، ولم تخل هذه الظاهرة من اتخاذها كموضوع نكتة بين الرجال والنساء، سيما في البيوت التي كانت تأوي أكثر من زوجة، حيث كانت المرأة العاقر تجد في الاحتماء بالتظاهر بـ”الراقد” في بطنها، حلا نفسيا لمواجهة الأخرى الولود، أو كانت المرأة، مخافة ضياع حقها في الإرث، تتظاهر بأنها حامل بمولود ذكر وأن حملها “راقد”، ومنهن من كانت تلجأ إليه كحيلة وخديعة للتستر على خطيئة عابرة، ومنهن من كانت تتوهم أنها حامل وأن حملها “راقد” تحت تأثير رغبتها الملحة في الإنجاب، ونظرا للضغوط النفسية والحرمان الذي يلف حياتها في ظل ظروف حياتية صعبة وبيئية قاسية.
إعداد: نعيمة السريدي