بلاغ للديوان الملكي حول ترؤس الملك محمد السادس لجلسة عمل خُصصت لموضوع مُراجعة مدونة الأسرة
بقلم: جمال الموساوي
في أفق انعقاد المؤتمر المقبل لاتحاد كتاب المغرب، ثمة الكثير من الكلام الذي سيقال. بعضه يبتغي النهوض بالممارسة الثقافية والتدبيرية لهذه المنظمة، بينما سينصب بعضه الآخر على “الصيد” في المياه العكرة، دون أدنى التزام بمبادئ “الاتزان”.
يهمنى في هذا السياق وأنا أتابع النقاش الذي يمهد للمؤتمر أن أتمحص ما يكتب حول استشراف الأفق، ولكن أيضا حول الأسباب التي أدت إلى السبات الذي أصاب الاتحاد خلال الثلاث سنوات الأخيرة، مهما حاول البعض تلميع المرحلة.
لن أكشف جديدا عندما أقول إن الكثير من الكتاب والشعراء، أعضاء الاتحاد، منساقون مع تيار المصطلحات، فترى أفواههم مليئة بالكلمات الكبيرة، المبتذلة في الواقع، والتي لم تعد تعني للجيل الجديد من الكتاب أي شيء، ليس لخلل في هذا الجيل، بل لأن المتشدقين بها إما أنهم لا يترجمونها إلى عمل، وإما أنهم، من خلال السياقات التي يحشرونها فيها، يعطون الانطباع بأنهم لم يفهموها حق فهمها ولم يستوعبوا لها معنى.
هكذا يمكن أن نجد “مثقفا وشاعرا” لا يفرق بين الخلاف والاختلاف، ويرى أن الاتحاد في حاجة إلى “مثقفين متزنين ولا يقدمون استقالتهم بسرعة”، وما من شك في أن هذا الكلام يتضمن لمزا وإشارة إلى انسحابي من المكتب التنفيذي للاتحاد بعد أربعة اجتماعات كانت مخصصة لتوزيع المهام. لم أكن أريد العودة إلى هذا الموضوع. اعتقدت أنها صفحة طويتها بقول بعض الأشياء آملا في أن يثار نقاش حقيقي وجدي حول المنظمة وآفاقها في مجتمع يتحرك.
خلال هذه الاجتماعات لم يكن هناك أي اختلاف. لم يكن هناك صراع للأفكار. لم تكن هناك خلفيات إيديولوجية بالمعنى الواسع، ولا حزبية. لم يكن هناك اختلاف في الرؤى أو وجهات النظر، أو تعدد للمشاريع يستدعي الحسم. لم يكن هناك نقاش أصلا. كل ما كان هناك خلال تلك الاجتماعات الأربعة رغبة في “الاستحواذ” على “المناصب” الأساسية (الكتابة العامة وأمانة المال ونيابة الرئيس). في لحظات كهذه وأمام ممارسات ينأى المثقف الحقيقي بنفسه عنها، لا يمكنك إلا أن تشعر أن الأمر يتعلق “باحتمال الاستفادة” من شيء ما يخوله هذا المنصب أو ذاك، وتجد نفسك وسط مناخ ضاج بالغموض وعدم الثقة.
لهذا لا يمكن لشخص في أقصى الأرض (أرض نحبها مع ذلك لأنها أنبت أناسا نحبهم)، والحالة هذه، أن يتحدث عن اختلاف وهو لم تصله الوقائع إلا عن طريق العنعنة، ولا يمكنه بالتالي أن يلمزني بهذا الشكل، ويقول إن الاتحاد في حاجة إلى “مثقفين متزنين ولا يقدمون استقالتهم بسرعة”، علما أنني لم أدع يوما أنني مثقف، لكنني أزعم في المقابل بأن الاتحاد في حاجة إلى من يحسن تدبيره ويستطيع أن يجعله في قلب النقاش الدائر في المجتمع الذي يوجد حاليا في مرحلة مخاض حقيقي.
في استهلال كتابه “قبل السقوط” أورد الراحل فرج فودة كلمة لم ينسبها إلى أحد، مما جاء فيها “لا تجوِّز لنفسك تأويل آية على مذهبك إلا جوزتَ لي تأويلها على مذهبي”، هكذا يتلخص الاختلاف، في نظري، أما في المكتب التنفيذي للاتحاد فلم تكن هناك إشكالية مرتبطة بتأويل شي ما، بقدر ما كان هناك نوع من الرغبة في الهيمنة، ورهنٌ للعمل ببعض التنازلات من الرئيس المحسوم في “منصبه” داخل المؤتمر. المؤكد أن الأعضاء التسعة في المكتب لم يكونوا على قلب رجل واحد كما يقال. وبعد هذا يأتي من يتحدث عن المثقف المتزن الذي يستوعب المرحلة، وكأنه يلقي درسا مبتذلا في التربية على المواطنة.
بعض الناس، “المتثاقفين” منهم خاصة، لا يعرفون أن ثمة أشياء كثيرة تغيرت، وأولها أن منطق الوصاية والدروس قد سقط إلى غير رجعة وأن آفاقا واسعة انفتحت، وأن عليهم تبعا لذلك أن ينصرفوا للكتابة بدل التحدث من علٍ، ودون إحاطة بما كان ودون استشراف لما سيأتي، وأن يبتعدوا عن الكلام الفضفاض المشترك بين “العوام”، من قبيل “المصلحة العامة وشروط التاريخ الديموقراطي والحوار والموضوعية والحكامة”، كلمات كبيرة فارغة من أي معنى إذا لم نضعها في سياق لائق.
هذا يدفعني إلى القول إن الجزء الأعظم من الأزمات والتراجعات التي ألمت باتحاد الكتاب راجعة بالأساس إلى أن أعضاءه لا يتحملون مسؤوليتهم على الوجه الأمثل، ولعل أول أوجه هذا التقصير يتجلى في هروب البعض من تحمل مسؤولية التسيير، لأن “مهمة” حمل المعاول تستهويه أكثر فيفضل تتبع هنات المكتب التنفيذي والتشنيع به مهما فعل. ويتمثل الوجه الثاني في أن الكثير من الأعضاء من جميع الأجيال (مع الأسف) لا يمارسون حقهم في التصويت عن قناعة بالشخص أو (اللائحة) الأنسب وإنما انطلاقا من “الخدمات” التي يمكن “للمرشح” أن يقدمها لهم، وهذا بالضبط ما يحدث في انتخاباتنا السياسية. أفليس مستغربا أن يعيد المثقفون- نخبة المجتمع- كل مزالق التخلف التي يسقط فيها الناخبون والمرشحون في مجال السياسة؟…
بعد هذا، وعلى سبيل الاستطراد، أشير إلى أن النقاش داخل المكتب التنفيذي وصل أحيانا، خلال الاجتماعات الأربعة، إلى أدنى درجات الإسفاف الذي لا يليق بالكتاب، إسفاف كان لا بد أن يفجر المكتب إن عاجلا أو آجلا، علما أن بوادر هذا الانفجار كانت واضحة في نهاية المؤتمر الأخير.
الآن، أعتقد أن على المؤتمر المقبل للاتحاد أن ينكب على الأسئلة الجوهرية التي تهم تحديد دوره وهدفه، انسجاما مع التطورات التي شهدها، ليس المغرب فحسب، بل العالم أجمع، كما ينبغي في نظري المتواضع أن يتم التخلص من تلك الفكرة التي تجعل من هذه المنظمة ناطقا رسميا وممثلا شرعيا ووحيدا للكتاب المغاربة. هذه مهمة لا يمكنها، لاعتبارات موضوعية أن تتحقق. إضافة إلى ذلك وعلى عكس ما يذهب إليه الكثير من الأعضاء، من الواجب التخلي على نوع من ثقافة الريع الثقافي، أي عن البحث عن امتيازات من أي نوع كانت، بمعنى آخر لا ينبغي للأعضاء أن يبحثوا، من باب “النضال النقابي” للاتحاد، عن بطاقة مجانية في قطار أو حافلة، أو عن “تصريح” بالدخول مجانا إلى قاعات السينما، أو عن تذكرة للحج، وكأنهم مواطنون ليسوا كالآخرين، وبالمقابل، عليهم من خلال الاتحاد طرح أسئلة الاستثمار في الثقافة وإنتاجها، وتوسيع دائرة القراءة وترويج الكتاب، وتشجيع تسويق الكتاب المغربي خارج الحدود، والدفاع عن حرية الكتابة والإبداع والرأي، والانخراط في معالجة الأسئلة السياسية التي يحتاجها المجتمع لتطوره وطرقها من باب الثقافة كلما كان ذلك ضروريا.