المغرب كشعب أمة عريقة ذات جذور ممتدة في عمق التاريخ، وكدولة نتاج إسلامي قامت سنة 788 م، دولة بهذا العمق التاريخي طبيعي أن تكرس طقوسا كغيرها من الدول العريقة في العالم، طقوسا تكتسي طابع التقاليد الموروثة، وهو أمر لا ينفرد به المغرب وحده، بل نجده لدى الكثير من الدول، بما فيها تلك العريقة في الديمقراطية، ففي الكثير من الدول التي تعيش في ظل أنظمة ملكية نجد أن الطقوس تشكل جزءا من تراثها. هذه الطقوس تحمل دلالات ورموزا باعتبارها تعبيرا عن تمثل المحكومين لطبيعة السلطة، وفي المغرب تبرز بشكل أساسي في عيد العرش، الذي تستند فيه هذه الطقوس على مؤسسة البيعة الضاربة بجذورها في عمق التاريخ.
فقد حافظ الملوك المغاربة على البيعة نظرا لما تتضمنه من ولاء عقدي وسياسي، فهي من جهة ذات مضمون عقدي ومن جهة أخرى تشكل بعثا للنموذج الذي أقيمت عليه السلطة الإسلامية الأصلية، أي نموذج بيعة الرضوان من الصحابة للرسول. وهذا ما يفسر حضور البيعة كتقليد سياسي في الممارسة التاريخية للملوك المغاربة واعتبارها مصدرا لمشروعيتهـم . ويعتبر المغرب الدولة الوحيدة التي لم تكتف بالبيعة الشفوية بل كانت البيعة تأخذ دائما شكل عقد مكتوب، يشهد فيه عدول الأمة وقضاتها، أو يكتب المبايعون بيعتهم بأنفسهم ويذيلونها بإمضاءاتهم، فإذا تم الإشهاد دعي الملك المبايع بصيغة الدعاء المخزنية التي لا يدعى بها إلا الملوك .
بهذه الطريقة كان الحكم ينتقل إلى ولي العهد، في زمن لم يكن العالم يعرف فيه معنى الدستور، حيث كانت ولاية العهد مجرد ترشيح لتحمل المسؤولية، بينما تتأكد مشروعية الملك بتفعيل مقتضيات البيعة، التي تتضمن حقوقا وواجبات، وليست التزاما مطلقا من طرف المبايعين بالسمع والطاعة للملك المبايع، فهي تعاقد بينهم وبينه يشترطون عليه فيها بأن يضطلع بكل ما يعتقدون أنه يضمن مصالحهم ويحمي دينهم وبلدهم، ويشترط عليهم فيها مساعدته على النهوض بالمهام المنوطة به[1] .
وقد حرص المغفور له محمد الخامس، منذ توليه الحكم في عهد الإحتلال، على التأكيد بأن مصدر مشروعيته القانونية نابع من البيعة الشرعية، التي قامت بها جماعة أهل الحل والعقد من الوزراء والعلماء والشرفاء والأعيان الذين اجتمعوا في عاصمة المملكة آنئذ فاس[2] . وفي خطابه سنة 1927 أكد على مفهوم البيعة وعلى ربط الحاضر بالماضي في إطار الاستمرارية على شكل الحكم[3]، بالرغم من أن سلطات الحماية جردت السلطان من صلاحياته الزمنية، وأضفت على شخصه طابعا روحيا رمزيا فقط .
وحين أعلنت سلطات الحماية ابن عرفة سلطانا على البلاد، وجه المغفور له محمد الخامس نداء إلى الشعب المغربي يذكره فيه بمقتضيات البيعة وما تستلزمه من المبايعين اتجاه الملك، حيث ذكرهم بأن بيعته شرعية انعقد عليها الإجماع، وأن الخارج عنها يعد خارجا عن جماعة المسلمين، مستلهما قول الرسول ” يد الله مع الجماعة “، وأمر المغاربة بالتمسك بالعروة الوثقى والتزام الجماعة والمحافظة على ما أمر الله بالاعتصام بحبل الله الوثيق[4] .
وقد لعبت البيعة دورا في عملية انتقال الملك إلى الراحل الحسن الثاني الذي كان يوظف مفهوم البيعة باستمرار لتركيز محتوى الشرعية الدينية، حيث كان هذا المفهوم حاضرا بقوة في خطابه السياسي، باعتبارها الفلسفة الدستورية المؤطرة لبناء الدولة المغربية، ولأنها تشكل قاعدة لتأصيل العديد من الصلاحيـات، ففي رأيه تعتبر البيعة أشمل من أشكال العقود التاريخية التي تصورها منظرون من أمثال “لوك” و “هوبز” و “روسو”، فتلك الأفكار، في نظره، لا تستوفي مضمون عقد البيعة الذي يعتبره أشمل منها جميعا. فالبيعة تفتح السبل أمام التفاهم المشترك لأنها عقد ملزم لطرفيه، الإمام والأمة، أساسه الثقة المتبادلة وهدفه إقامة المؤسسات الكفيلة بإقرار السلم والعدالة، فتنشأ بذلك الدولة في إطار القانون الذي يحدد الفقهاء والحقوقيون معناه ومقاصده[5] .
إن البيعة بهذا المعنى تشكل الأساس الفلسفي الذي تقوم عليه مؤسسات الدولة الحديثة، فهي تتضمن فكرة العقد الاجتماعي بل وتتجاوزها بالنظر إلى عنصر الإلزام الذي يشمل الأمة والإمام، وتقوم بوظائف سياسية واجتماعية . ويرى الراحل الحسن الثاني أن وظائف البيعـة لا تقتصر على الجانب الديني الذي يجعل الفرد يحيى حياة المسلم المؤمن، بل تتعداه من أجل الحفاظ على مصالحه الدنيوية، فالهدف من البيعة هو حماية حياة أفراد الأمة وأموالهم وأعراضهم وضمان سعادتهم[6] . وبمعنى آخر إذا كان أصل البيعة ديني فإن تجلياتها دنيوية بالدرجة الأولى .
والبيعة بهذا المعنى تفرض على الملك واجبات تملي عليه خدمة الأمة طبقا للقيم الدينية المتضمنة في تلك البيعة، فمهامه ووظائفه إذن تستند إلى عقد البيعة وما يفرضه عليه من التزام، وقد ظهر ذلك جليا في عهد الاستعمار، حيث كان كفاح المغفور له محمد الخامس تجسيدا لمفهوم البيعة التي تجعل من أمير المؤمنين حاميا للدين وضامنا لوحدة الوطن ولوجود الدولة واستمرارها، هذه المسؤولية جعلته يجسد اتحاد الإمامة الدينية بالقيادة السياسية، ويقوم بواجبه تجاه الإسلام وتجاه مصالح الشعب المغربي، وقد نجح في التوفيق بين كل مسؤولياته، حيث ضمن حقوق الأمة وفي الوقت ذاته صان مقتضيات الشريعة.
وفي قضية استكمال الوحدة الترابية أثبتت الوثائق التاريخية ولاء قبائل ” الصحراء الغربية ” لملوك المغرب عن طريق البيعة التي اعتبرتها محكمة العدل الدولية رباطا قانونيا، تترتب عنه حقوق وواجبات، ويؤكد ممارسة ملك المغرب لسيادته على المناطق الصحراوية . ولم يكن الهدف من مبايعة سكان الصحراء للملوك العلويين هو الاعتراف بحكمهم أو الولاء والطاعة لهم فقط، بل إنه اعتراف بأن الصحراء أرض مغربية على السلطان حمايتها والدفاع عنها ضد الأطماع الأجنبية، وهذا ما تؤكده الوقائع التاريخية بالمغرب[7] .
وهكذا يظهر أن طقوس عيد العرش ليست وليدة العصر الحديث بل قديمة قدم الدولة المغربية، إلا أن شكلها كان يختلف باختلاف العصور والسلالات الحاكمة في المغرب، وقد طرحت مسألة الطقوس الملكية بشكل عام للنقاش العلني مع اعتلاء الملك محمد السادس العرش نهاية التسعينيات، حيث دعا عدد من الفاعلين السياسيين والمفكرين إلى تبسيط الإجراءات البروتوكولية المرتبطة بالمؤسسة الملكية، بما ينسجم مع المرحلة السياسية الجديدة التي يعيشها المغرب، والمتميزة بتعميق الديمقراطية والتحديث، مؤكدين على أن المؤسسة الملكية المتجددة والمتطورة باستمرار في حاجة ماسة اليوم إلى بروتوكول أكثر مرونة. وهو ما تمت الاستجابة له بالفعل، حيث أن طقوس عيد العرش في عهد محمد السادس أصبحت أكثر بساطة وليونة مما كانت عليه في عهد الراحل الحسن الثاني.
[1] ـ عبد الوهاب بن المنصور، البيعة وولاية العهد بالمغرب، مجلة المناهل، العدد 41، السنة 19، فبراير 1993.
[2] ـ خطب الملك محمد الخامس، وزارة الإعلام، المجلد الأول، ص 95 .
[3] ـ نفس المرجع، ض 99 ـ 100 .
[4] ـ نفس المرجع، المجلد الثاني، ص 29 .
[5] ـ الحسن الثاني في إحدى حواراته مع إيريك لوران، ورد في عبد العلي حامي الدين، الدستور المغربي ورهان موازين القوى، دفاتر وجهة نظر، العدد 7، الطبعة الأولى 2005، ص 45 .
[6] ـ نفس المرجع .
[7] ـ محمد العربي الخطابي، مفهوم البيعة والسيادة الترابية، مجلة الفنون، عدد خاص عن المسيرة الخضراء، 1976، ص 127.