الجميع يتحدث اليوم عن الدرس التونسي، فبين الدرس التونسي و النموذج التونسي تتصارع إرادتان إرادة نجاح الديمقراطية في تونس و إرادة تهريب الإرادة الشعبية على قاعدة تحالفات مناهضة للطبيعة. الإنتخابات الرئاسية التونسية كشفت الحقائق التي لابد لكل ديمقراطي و متتبع أن يأخدها بعين الإعتبار.
لقد جعلت فوضى الربيع و استراتيجية النفخ الإعلامي (الذي قادته الجزيرة و من وراءها مهندسوا الفوضى الخلاقة) مهربي الإرادة الشعبية يستأسدون و يستعملون كل الوسائل الديكتاتورية من أجل فرض أنفسهم و خياراتهم على الجميع.
كان المهربون و الجزيرة من ورائهم يقولون أن ستة ملايين شخصا كانوا معتصمين في ميدان التحرير، و اليوم نحن نتسائل هل يمكن أن يستوعب "رامبوان" مهما كَبُر ستة ملايين من العتصمين بخيامهم، الجواب بعد ثلاث سنوات من الإفتراء الإعلامي هو لا لأنه على افتراض أن كل معتصم يحتاج على الأقل مترا مربعا واحدا فميدان التحرير يجب أن تكون مساحته تتجاوز أو تعادل 6 ملايين متر مربع أي 600 هكتار، فهل يتصور عاقل أن تكون 600 هكتار فقط مدارة (رامبوان) في القاهرة؟ إنه الكذب الذي حاول المهربون أن يسوقوه لدى الشارع العربي وحتى إذا افترضنا أن العدد لم يكن يتجاوز مليون أو خمس مائة ألف معتصم، فهل من الديمقراطية أن يقرر 1% أو أقل من 1% من تعداد الشعب المصري في مصير أمة بأكملها؟
ماحدث في مصر، حدث في تونس، تدخل العسكر و فرض ترحيل الرئيس بن علي و فتح المجال لمرحلة انتقالية و انتخابات سريعة حتى تعطى الريادة لتيار بعينه، ذكاء النهضة ودفعها لأحد الأوجه الحقوقية و الديمقراطية إلى رئاسة الدولة في المرحلة الإنتقالية، جعلت عينة من الذين أصابهم العقم الجماهيري في بلادنا يروجون لمقولة النموذج التونسي، و إن منهم من انتقل أكثر من مرة لكي يتابع عن كثب مجريات الإنتخابات التونسية حتى يكون قريبا من النموذج التونسي قبل أن يصابوا بالإنتكاسة الأولى أثناء الإنتخابات التشريعية والإنتكاسة الثانية بعد الإنتحابات الرئاسية التي جرت يوم 21 دجنبر2014. الإنتكاسة التي تعرضت لها دول "الفوضى الخلاقة" أصابت عينة من المثقفين بحالة انهيار سيكولوجي، جعلت كل الحالمين بالتحكم في رقاب الشعوب بدون مشروعية جماهيرية يتطلعون إلى نجاح تجربة تونس، و نجاح تجربة تونس كان يقتضي في مرحلة أولى أن تكتسح النهضة الإنتخابات البرلمانية وتصبح أول قوة سياسية في البلاد حتى تروج لمشروعها الإسلامي المتفتح الذي يقتضي تلقيح المؤسسات الدستورية بمجموعة من الوجوه الديمقراطية التي ليس لها امتداد جماهيري. لكن سقوط النهضة، جعل أشباه المثقفين و كل الذين نفرهم الشعب يتطلعون إلى نجاح و لو بدرجة أقل من خلال إعادة انتخاب الشعب التونسي للرئيس المرزوقي الذي لم يترشح باسم حزبه الصغير و إنما ترشح كمرشح مستقل على أمل أن يستفيد من أصوات المرشحين الذين لم يحالفهم الحظ في الدور الأول و من أصوات حزب النهضة.
إنتماء المنصف المرزوقي إلى الصف الديمقراطي التونسي هو إنتماء لا غبار عليه، لكن إنتخاب المنصف المرزوقي بأصوات من خارج عائلته السياسية هو أقرب إلى التدليس السياسي منه إلى الممارسة الديمقراطية.
لقد كان المنصف المرزوقي يتطلع إلى تصويت تحالف اليسار المنضم داخل الجبهة الشعبية حتى يعطي مشروعية ديموقراطية لانتخابه لكن قرار الجبهة الشعبية و زعيمها حمة همامي بعدم التصويت للمرزوقي الذي ٱعتبر في العمق مرشحا لتيار النهضة و حلفائه داخل حزب التحرير الإسلامي و التيار السلفي جعل المراهنين على النموذج التونسي يصابون بنكسة ثانية.
فلماذا يراهن بعض المثقفين داخل المغرب على نجاح و بشكل تدليسي للتجربة التونسية كمدخل لنجاح الربيع العربي؟ لماذا يراهن بعض المتثاقفين خصوصا في المغرب على "العهارة السياسية" في تعاملهم مع بعض فعاليات الصنف الإسلامي؟
أنا أفهم على أنه في بعض المواقف الإنسانية يتجاوز الناس ماهو إيديولوجي و يغلب الحس الإنساني على غيره من المحددات، و هو شيء محمود لكن عندما يتعلق الأمر بالأمور الفكرية و الإيديولوجية و السياسية تبقى هناك مجموعة من التفاوتات لا يمكن القفز عليها… كما حدث لبعض المثقفين اليساريين و الديمقراطيين الذين حضروا الذكرى الثانية لوفاة عبد السلام ياسين والذين تفاجئوا من حجم المكبوت و الموروث الإستبدادي في فكر جماعة الخلافة ، لقد كانوا ينتظرون أن يجدوا فكرا ديمقراطيا إسلاميا على شاكلة الفكر الديمقراطي المسيحي و جلسوا كتلاميذ الثانوي يستمعون إلى عروض حول الإمام المتجدد و الخلافة على منهاج النبوة، فهل بالفكر الإمامي و الخلافة نتطلع إلى المغرب الأكثر ديمقراطية؟
ٱنتخابات تونس عرفت صراعا بين معسكرين: معسكر مناهضة الإستبداد كما كان يسمي نفسه المرشح المنصف المرزوقي، و معسكر مناهضة الإرهاب كما كان يسمي نفسه المرشح القايد الباجي السيسي، لهذا ٱختار الشعب أن يكون إلى جانب العجوز الليبرالي المناهض للإرهاب و لجماعة حزب التحرير و السلفيين و حزب النهضة، أليسوا هم من فتحوا السجون وأخرجوا قادة المجموعة الجهادية الإسلامية التونسية و في مقدمتهم سيف الله بن حسين الذي بايع داعش و ٱغتال القيادات الديمقراطية….
لقد ٱختار التونسيون استمرار نظام بورقيبة و نظام بن علي مع بعض التعديلات من أجل صيانة استقرار و أمن تونس، عوض أن ينساقوا إلى إعادة تجربة المرحلة الإنتقالية التي كانت مبنية على "فسيفساء فكرية و إديولوجية و سياسية غير منسجمة" تحيل على اقتناص اللحظة التاريخية من أجل تصفية النظام الديمقراطي و التمهيد لنظام ديكتاتوري باسم الإرادة الشعبية.
نجاح مايسمى بالنموذج التونسي كان يراهن عليه الكثيرون من الذين يريدون أن يلعبوا دور الواجهة الديمقراطية للإستبداد الديني.
حزب النهضة في تونس كان يراهن على اكتساح الإنتخابات البرلمانية في المرحلة الأولى و يدفع للواجهة كرئيس دولة المنصف المرزوقي حتى يلعب دور الوجوه الليبرالية لرؤساء الجمهورية و رؤساء الحكومات التي احتلت المشهد الإيراني عقب ثورة نوفمبر 1979 كانوا يريدون أن يلعب المرزوقي دور أبو الحسن بني صدر و بخيتار و برزڭان قبل أن يتمكن الحرس الثوري من الجميع و يعدم من أراد و ينفي من أراد، غير أن محك المرحلة الإنتقالية، جعل الشعب التونسي يختار الإنتصار للديمقراطية بما فيهم المنصف المرزوقي، الذي فرض عليه أن يعود إلى الشارع كصوت ديمقراطي نظيف عوض أن يكون واجهة ديمقراطية في لعبة قذرة تفقد معها تونس كل عوامل الإستقرار التي تحتاجها بعد مرحلة انتقالية أنهكت إقتصادها و جعلتها تعيش قاب قوسين أو أدنى واقع جارتها ليبيا.
النموذج التونسي حسب تطلعات بعض المثقفين و السياسيين الذين أصابهم العقم هو جر العدل و الإحسان إلى إقراض ما تبقى من عديدها إلى الذين أصابهم العقم الجماهري لتحريك الشارع و عندما تستوي الأمور يتطوع المنبوذ لفرض نفسه كبديل، إلى ذلك الحين يعمل المنابيذ على خلق تحالف بين العدل و الإحسان و ما تبقى من يسار " الحَرْكَة " من جمهوريين و فوضويين و…و…و…ومن أجل ذلك تجد بعض الوجوه التي لا تعرف حتى القِبْلة تطوعت في إطار العهارة السياسية إلى تسويق التحالف السياسي بمعزل عن ضوابطه الفكرية و الإيديولوجية في عتمة دار الخلافة و هو ما ولَّد الصدمة في ذكرى المرشد و الإمام المتجدد التي لم يتوانى بعض القابضين بدار الخلافة من نعت غيرهم بالعلمانيين الملاحدة.
فشل النموذج التونسي و نجاح الدرس التونسي يعطي اليوم مصداقية أكثر للنموذج المغربي، الذي استطاع أن يربح ثلاثة سنوات في إطار الإستقرار مع حكومة منتخبة بقيادة أحد الوجوه الإسلامية، حكومة دشنت مجموعة من الإصلاحات الهيكلية و الإستراتيجية، تجعل المغرب اليوم في موقع الريادة من حيث التطور الديمقراطي و الإستقرار السياسي و الأمني و الإصلاح بمفهومه الشامل. فهل تحالف العدل و الإحسان مع من يسميهم إكليروس الجماعة بالعلمانيين الملاحدة سيعطي الريادة للمغرب كنموذج؟
أظن أن واقع ليبيا و سوريا و العراق و اليمن اليوم يغنينا عن الجواب، فالمغاربة لايريدون واقعا تتحكم فيه الطوائف والقبائل و العشائر، تندثر معه الدولة الوطنية و نعود إلى زمن سبي النساء و قطع الرؤوس و الحسبة و الجزية و الغنيمة، فالديمقراطي الحقيقي لايبيع جلده و لا يرهن جوهره الديمقراطي لكي يستأسد الإستبداد المكبوت في دواخل بعضهم من أجل طموح شخصي يفرط في المتراكم ذي الآفاق الواعدة.