الإستعمار الذي ٱكتوت بناره الأمم المستضعفة لم يكن عملا عسكريا و ٱستعمالا للقوة وحدها، بل كان غزوًا حضاريًا بجميع المقاييس، ففي حالة المغرب و قبل أن تَحُل جيوش فرنسا الإستعمارية، غزا المغربَ جيشٌ من الباحثين الأنطربولوجيين من أجل رسم خريطة النسق الإجتماعي المغربي ووضع كراسات حول سلوك و عادات القبائل المغربية و المخزن القديم و اللهجات المحلية، لهذا تعاملت الشعوب المستعمرة مع العلوم الإجتماعية و الأنطربولوجيا كعلوم مرتبطة بالغزو و سلب الإرادة الوطنية و لم تتعامل معها كعلوم مهووسة بفهم الآخر من أجل احترام إرادته بل كعلوم من أجل فهم الآخر و سبر أغواره من أجل التحكم فيه و سلب إرادته.
فما أشبه الأمس باليوم، الهيمنة إذا لم تكن بالقوة العسكرية و بسط النفوذ الإقتصادي فإنها تتم بوسائل أخرى في مقدمتها تنقيط الدول و تقييم منسوب الديمقراطية و منسوب حقوق الإنسان فيها و هي أشياء تظهر و تختفي في علاقات القوى الكبرى فيما بينها مجتمعة و بينها و بين الدول الأخرى التي قد تستعصي على المضغ.
المغرب عاش أزمة طوال سنة مع فرنسا حول أحقية القضاء المغربي في التعاطي مع الجرائم و الجنح التي تقع فوق التراب الوطني المغربي على ضوء القانون الفرنسي الذي يعطي الحق للقضاء الفرنسي للبث في حزمة من الجنح و الجرائم التي يكون أحد أطرافها فرنسيا أو مقيما في فرنسا.
فرنسا الإشتراكية و بعد عام من التلكؤ إختارت مكرهة أن تعيد تقييم تعاونها القضائي مع المغرب من خلال إقرار اتفاقية تعاون جديدة تحترم سيادة المغرب من خلال أحقية قضائه في البث في قضايا جرت وقائعها فوق التراب الوطني المغربي.
إقرار فرنسا بالسيادة القضائية المغربية على ترابه الوطني لم يكن يعجب الأنطربولوجيين الجدد الذين يريدون الإنتقاص من سيادة الدول باسم حقوق الإنسان، فحقوق الإنسان لم تعد مبادئ كونية لا علاقة لها بالجغرافيا بل أصبحت مبادئ تدافع عن مصالح بعض الدول أو بعض لوبياتها، و هذا ما حدث مع البيانات التي أصدرتها منظمات حقوقية تعتبر نفسها دولية كمنظمة الحقوق الدولية و هيومان رايت ووتش و جمعية "أكات" المسيحية التي تطالب فيها رئيس الوزراء الفرنسي بالتراجع عن اتفاقية التعاون القضائي مع المغرب، ثلاث منظمات و ثلاث بيانات كتبت جميعها من محبرة واحدة، محبرة الدفاع عن الإستعمار الجديد و الإنتقاص من سيادة الدول.
فحقوق الإنسان لم تعد في عرف المنظمات إياها مبادئ كونية مطلوب الدفاع عن إقرارها في جميع دول المعمور بل أصبحت وسيلة من أجل إقرار نظام قضائي دولي يميز بين قضائين، قضاء الدول المتنفذة ذي الإختصاصات الكونية و قضاء الدول المستصغرة الذي لا تختص إلا فيما بقي من الإختصاصات حتى لا يتواجه أمامه إلا "كحل الراس" فيما بينهم، فيما يختص قضاء الأمم المتمدنة بالقضايا التي يكون أحد أطرافها مواطنين عالميين من الدرجة الممتازة.
فالمغرب عندما يدافع عن اختصاص قضائه الوطني في القضايا التي تجري وقائعها داخل الحدود الترابية للمغرب فإنه يدافع عن سيادته و عن استقلاله الوطني و لا يدافع عن أشياء أخرى و لا يناهض القيم الحقوقية الكونية و تفعيلها فوق ترابه الوطني بعيدا عن المزايدات السياسوية المنحرفة و المستغلة لقضايا حقوق الإنسان. فكم من الدول لا يظهر سجلها في حقوق الإنسان إلا عندما تدافع عن استقلالها الوطني أو ترفض التزامات دولية مضرة باقتصادها أو مصالحها الحيوية و سيادتها الوطنية.
ملف حقوق الإنسان على ضوء بيان المنظمات الحقوقية الثلاث أظهر بما لا يدع مجالا للشك أن هذه المنظمات ليست إلا آليات تأثير تظهر وتختفي كما يظهر الذئب و يختفي في رواية الراحل محمد زفزاف.