خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط: اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله
(و م ع)
ترأس أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، مرفوقا بصاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير مولاي الحسن، وصاحب السمو الملكي الأمير مولاي رشيد، وصاحب السمو الأمير مولاي إسماعيل، اليوم الثلاثاء بالقصر الملكي بالرباط، الدرس الثاني من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية.
وألقى درس اليوم بين يدي جلالة الملك، السيد ذكر الرحمان، أستاذ جامعي ومدير المركز الثقافي الإسلامي الهندي في نيودلهي، متناولا بالدرس والتحليل موضوع: “التربية على المسؤولية “، انطلاقا من وصية لقمان التي أولها ..” ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن الله غني حميد …” (سورة لقمان).
ووضع المحاضر كلامه عن التربية في الاسلام في إطار مجموعة من الإشارات ، تؤكد الاولى أن القرآن الكريم كله بأحكامه وأخلاقه وعبره وقصصه توجيهات تربوية مليئة بالشفقة على الانسان الذي كرمه الله وأراد له أن يبقى في أحسن تقويم ، مضيفا انه لايجوز لنا في هذا العصر “نحن المسلمين تحت تاثير عديد من المستجدات في نمط الحياة أن يتسرب إلينا الشك في فعالية هذا الأسلوب وفي مضمونه فنتهاون عن الأخذ به “.
وأكد أن القرآن سيبقى يقص علينا موعظة لقمان الحكيم لابنه أن وصاه بشكر الله وبعدم الشرك به وباستحضار ومراقبة الله له في كل شيء ووصاه بالصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ووصاه بالصبر وبتجنب الذل واحتقار الناس وتجنب الكبر والاختيال وبالقصد في المشي المادي والمعنوي وتجنب الصخب ، مضيفا إنها مبادىء تربوية كاملة تعم العلاقة بالله والعلاقة بالذات والعلاقة بالناس .
أما الاشارة الثانية فتفيد -يضيف المحاضر- بأن الديانات والمذاهب الفلسلفية في العالم اقترحت وما تزال تقترح على الإنسان منظومات تربوية للسلوك يركز بعضها على النفعية المادية أو الاجتماعية وبعضها على إجراء السلم الروحي مع الذات في مواجهة الضعف واللذات ، مشيرا إلى ان مسلمي الهند يعايشون أطيافا من هذه التواجهات .
وأبرز المحاضر أن الاشارة الثالثة تؤكد في كل يوم من هذا العصر ضرورة اجتهاد المربين للإقناع بأن الحرية التي اجتهد من اجلها الإنسان في تاريخه المشترك وأدى ثمنها غاليا لا يجوز أن يساء فهمها واستعمالها بحيث تضعف الاخلاق ، مضيفا أن الرابعة تشير الى أنه ظهرت في العالم الغربي المعاصر وانتشرت في بقية العالم ادبيات تنصح بقواعد للسلم مع الذات أو لتخفيف الكآبة وإعادة البشر للوجوه وشعار أغلبها طلب أسلوب النجاح المادي في الحياة “فلزم المسلم أن يعرف ما يقابل تلك الأدبيات في أخلاق الدين مع تميز هذه الاخلاق بالمرجعية في الإيمان والتوحيد”.
وأبرز السيد ذكر الرحمان أن التربية على المسؤولية تربية على الحرية ، وهذه قضية ستواكب مسيرة الإنسان إلى يوم الدين ، موضحا أن لا عبادة لله الواحد بلا حرية ، ولا حرية بلا مسؤولية ومن المناسب والمجدي أن يتعلم الاولاد هذه الحقيقة في سن الطفولة ولا سيما في زمن يتهدده التفسخ والتمرد في العلاقات السوية بين الابناء والاولاد.
وقال إن وصية لقمان متضمنة حال صاحبها العجيب في الاهتداء والحكمة ، مضيفا أن لقمان رجل صالح وأن أول ما لقنه لقمان من الحكمة هو الحكمة في نفسه بأن امره الله بشكره على ما هو محفوف به من نعم الله ومنها الاصطفاء بإعطائه الحكمة وعلى رأسها النظر في دلائل نفسه وحقيقته قبل التصدي لإرشاد غيره.
وسجل المحاضر أن الحكمة تدعو إلى معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه قصد العمل بمقتضى العلم ، فالحكم يبث في الناس تلك الحقائق على حسب قابليتهم بطريقة التشريع تارة والموعظة أخرى .
وتابع أن الشكر يظهر في صرف العبد جميع ما أنعم عليه به من مواهب ونعم فيما خلق لأجله ، فكان شكر الله هو الأهم في الأعمال المستقيمة ، فهو مبدأ الكمالات علما وغايتها عملا مبرزا أن الله أعقب الشكر المأمور به ببيان أن فائدته لنفس الشاكر ولا تنفع المشكور .
وأشار المحاضر إلى أن ابن لقمان كان مشركا ، ولم يزل أبوه يعظه حتى آمن بالله وحده . وقد جمع لقمان في هذا الموعظة أصول الشريعة وهي : الاعتقادات والأعمال وأدب المعاملة وأدب النفس .
وبين الأستاذ الجامعي أن النداء في قوله ” يا بني ” مستعمل مجازا في طلب حضور الذهن لوعي الكلام . والتصغير كناية عن الشفقة وحث على الإمتثال . بدأ بطلب الإقلاع عن الشرك لأن إصلاح الاعتقاد أصل إصلاح العمل ، فظلم الشرك ظلم لحقوق الله وظلم للنفس .
وقال إن المفسرين الذين درجوا على أن لقمان لم يكن نبيا يرون أن الكلام عن الوالدين اعتراض في سياق الوصية وليس منها لأن صيغته على أسلوب الإبلاغ والحكاية لقول من أقوال الله تعالى .
وأشار المحاضر إلى أن الله ذكر أدق الأجسام المختفي في أصلب مكان أو أبعده أو أوسعه أو أشد منه انتشارا ليعلم أن ما هو أقوى منه في الظهور والدنو من التناول أولى بأن يحيط به علم الله .
وتابع أنه بعد ان استوفت الوصية أصول الإعتقاد ، انتقلت إلى تعليم أصول الأعمال الصالحة ، وهي عماد الأعمال لاشتمالها على الاعتراف بطاعة الله وطلب الاهتداء للعمل الصالح .
وسجل أن لقمان جمع لإبنه الإرشاد إلى فعله الخير وبثه في الناس ، وكفه عن الشر وزجر الناس عن ارتكابه . ثم أعقب ذلك بأمره بالصبر على ما يصيبه ، لأن الأمر بالخير والنهي عن الشر قد يجران للقائم بهما معاداة أو أذى من بعض الناس . وفائدة الصبر عائدة على الصابر بالأجر .
وأشار السيد ذكر الرحمان إلى أنه بعد أن أوصى لقمان ابنه : ” ولا تصعر خدك للناس ” ، أوصاه بالعزم ، لينتقل به إلى الآداب في معاملة الناس فنهاه عن احتقارهم، وهذا يقتضي أمره بإظهار مساواته مع الناس وعد نفسه كواحد منهم ، ثم حذره من المشي في الأرض مرحا (كناية عن النهي عن التكبر والتفاخر ) مضيفا أنه بعد أن بين له آداب حسن المعاملة مع الناس قفاها بحسن الآداب في حالته الخاصة ، وتلك حالتا المشي والتكلم ، وهما أظهر ما يلوح على المرء من آدابه ، والقصد الوسط بين طرفين .
واعتبر مدير المركز الثقافي الإسلامي الهندي في نيودلهي أن هذه الوصية تربية مجملة لكنها في مواضيعها مكتملة ، والذي يربي لا يفعل شيئا غير تحميل المسؤولية للمتربي ، لانه يخاطبه بمنطق يشرح فوائد الإتباع وعواقب المخالفة . فالتربية على المسؤولية في الصغر تأهيل لتحملها في الكبر في أمور الدين والدنيا .
وبعدما أشار المحاضر إلى أن الإشارات إلى المسؤولية في القرآن تتعلق في معظمها بالمحاسبة في الآخرة ، قال إن المسؤولية في الإسلام مرتبطة بالتكليف ، وهو مبحث نال عناية خاصة في التنظير والتقرير من الفقهاء ، فالمكلف العاقل يتحمل نتيجة قراراته والتزاماته واختياراته أمام الله وأمام الجماعة وأمام ضميره اليقظ .
وتطرق المحاضر في هذا السياق للمبادىء المتعلقة بالتربية في باب العقيدة ، والذي يجب ان تستحضر فيه التربية على مسؤولية الإختيار الأكبر الذي هو الإيمان ، والتربية على مسؤولية أمانة تكريم الله للإنسان .
واكد المحاضر أنه يجب أن تستحضر في التربية على المسئولية قيمة الحرية التي يكفلها التوحيد مبرزا أن التوحيد ليس مجرد الاستحضار العقلي لما يذكره المتكلمون من أمور تتعلق بذات الله تعالى وصفاته، بل التوحيد قوة روحية تعمر الباطن وتحق للمؤمن حضور الله معه وقوته بذلك الحضور فيتقوى “فالإنسان يكون حرا إزاء العالم بقدر تمثله لحقيقة التوحيد، على أن هذه الحرية تتميز بكونها حرية مسئولة وملتزمة” .
وأضاف انه يجب أن يستحضر في التربية على المسئولية الحرص على ما هو مقرر من أخذ الدين عن العلماء العدول، وما يترتب عن ذلك من لزوم الجماعة والتحصن من الأهواء التي طاردت المسلمين في تاريخهم .
وبخصوص توجيهات الوصية في باب العمل أكد المحاضر أنه يجب أن تستحضر فيه التربية على المسئولية عن البر بذوي القربى، “لأن عمل الخير منظورا إليه من جهة التربية ينبغي أن يراعي الأولويات والمقامات والدرجات، وأقرب دائرة يحقق فيها الفرد عملا صالحاً هي دائرة قرابته الصغرى، فمن لم يعمل الخير في الدائرة، ابتداء من الوالدين، لم ينتظر منه أن يبذله فيما هو أوسع منها” مشيرا إلى انه يجب أيضا أن تستحضر فيه التربية على المسئولية عن الإحسان إلى الجماعة، وعيا بما ورد في السنة من أمر المؤمنين في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد، والجماعة هي القرية ثم القبيلة أو المدينة ثم الشعب والوطن، ثم سائر المسلمين ثم من خلقهم من الناس أجمعين.
كما يجب أن تستحضر فيه -يضيف المحاضر- التربية على المسئولية عن العمل وإدراك فضيلته نبذا لمكامن الضعف في التكاسل والتواكل، وتحقيقا للغايات الحميدة للسعي وما يترتب عنها من الخير للذات وللآخرين؛ مضيفا أنه يجب أن يستحضر في التربية على المسئولية الحرص على الزيادةٍ في الخير،” فلا يقنع الملتزم بهذه التربية بالنزر القليل شعورا منه بأن إسهامه في عمارة الأرض لجميع من فيها”.
أما في باب المعاملات، فأهم ما ينبغي استحضارة في التربية على المسئولية أربعة أمور حسب المحاضر تتعلق بنبذ الأنانية وأداء الحقوق، وخفض الجناح للخلق في غير مذلة، والحرص على التعاون على البر والتقوى.
واكد المحاضر أنه لا بد من شرح بعض القطوف الدانية من وصية لقمان، بأسلوبها الذي يتطلب عند المربين من الآباء إلى المعلمين شيئا مما أوتيه لقمان من الحكمة، “وهذا ما يفهم من استهلال الوصية بذكر ما أكرم الله به هذا المربي من الحكمة”.
وأبرز أن من أساليب الحكمة اليوم استعمال معارف المحيط وأمثلته في الإقناع، ويدخُل في هذه، المنهجية وتجنب الدوغماتية وتجنب الإكراه واستعمال القدوة وإظهار الفوائد العملية مع الفوائد الإيمانية من كل التزام تربوي وإظهار الفوائد النفسية المرتبطة بالاطمئنان الذي يبحث عنه الناس بكل الوسائل ثم إظهار الأمثلة من الواقع لاسيما الأمثلة من السيرة النبوية ومن حياة الصحابة ومن مناقب الصالحين مع إظهار البعد الاجتماعي وفائدته في صلاح الأفرادِ ثم إظهار البعد السياسي من خلال التمسك بأخلاق المواطنة الصالحة التي هي دِعامة للهوية الدينية وللقيم الإنسانية.
وأوضح أن الله بين في القصة أن “بإمكاننا أن نظهر الفائدة العملية الدنيوية من الشكر بالنسبة للشاكر” مضيفا أن هذا التوجيه يظهر بأن الدين جاء لمصلحة الإنسان، مع تحرير الناشئة من الصورة الباطلة التي تظهر الدين على أنّه خضوع الإنسانِ لسلطة عليا تحب التسلط والانتقام والتعذيب.
وشدد المحاضر على أن المعول في هذا المشروع التربوي القرآني على المربين الذين ينبغي أن يتصفوا بشيء من شفقة لقمان الحكيم، حتى تنجح تربيتهم على القيم أمام الله وأمام الناس وأمام ضمير الفرد حتى لا يشقى ، مشيرا إلى أن “الواقع الحالي في عالم المسلمين يظهر بعض المدارس شبه محايدة إزاء تعليم هذه القيم العليا، وفي ذلك خسارة كبرى، وبعض المدارس يعلم الدين بطريقة لا تفضي إلى تنزيل عملي، وهذه خسارة أخرى مثل الأولى أو هي أشد، ولكن الأدهى والأمر هو أن يعلم بعض الناس الدين في مدراسهم أو مجالسهم تدريسا لا يحمي العقل من نوازع العنف”.
وقال المحاضر إن التقصير في تعليم الدين على أساس ما جاء به من المسئوليات يخلق فراغا لابد أن يملأ مبرزا أن التعليم يقدم المعلومات ويكسب المهارات وعليه يتوقف الكسب وتوفير أسباب العيش بما يكفي وبالجودة المطلوبة.
وأبرز المحاضر أن المساءلة أي المحاسبة كما ورد ذكرها في القرآن تتعلق بالآخرة في معظم الآيات، أي بما بعد الموت مضيفا ان مدار التربية القرآنية هي الاعتدال بين حياة الدنيا والآخرة، “أي أن المساءلة التي ينبغي أن يتربى عليها المسلم إذا صحت بشرطها والعزم المحاذي لها هي التي تنفعه في الحياة الآخرة بعد أن انتفع بها في الدنيا،” .
وقال إن استحضار الموت ليس للحزن والغبن والاسى بل للأمل في الله الذي خلق الموت والحياة ليبلو الناس أيهم أحسن في الدنيا عملا، وإن كثيرا من التيارات الفكرية كادت تدخل في أنفس المسلمين عقدة الحياة فلا يتحدثون إلا عنها وكأنما هم بحاجة إلى البرهنة على أن الإسلام دين الحياة.
وكان المحاضر قد أعرب في مستهل محاضرته عن الأمل في ترجمة الدروس الحسنية، التي تترجم الى الانجليزية والفرنسية والاسبانية والروسية، إلى اللغة الأوردية التي يتكلمها ربع مليار مسلم في شبه القارة الهندية.
وفي ختام الدرس الافتتاحي من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية، تقدم للسلام على أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس، كل من الأساتذة محمد أحمد محمد حسين، المفتي العام للقدس والديار الفلسطينية ومحمد علي إبراهيم الزغول، أستاذ بجامعة مؤتة بالأردن وحسن المناعي، أستاذ بجامعة الزيتونة وعضو المجلس الإسلامي الأعلى بتونس ومحي الدين جنيدي عشماوي، أستاذ جامعي ورئيس مجلس العلماء الإندونيسي وعبد الله بن علي سالم، قاضي ورئيس مجلس إدارة جامعة نواكشوط بموريتانيا وإسماعيل لطفي جافاكيا، رئيس جامعة فطاني بالتايلاند وإبراهيم أحمد، عضو المجلس الأعلى للفتوى الإسلامية، جمهورية المالديف وسانا الشيخ خالد سيف الإسلام، من كبار علماء بوركينافاسو ومحمد الأمين توراي، رئيس فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بغامبيا والشيخ إسماعيل إبراهيم كروما، رئيس فرع مؤسسة العلماء الأفارقة بالسيراليون وعومارو كامارا أبو بكر، رئيس فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة ليبيريا.