وجه الملك محمد السادس رسالة سامية إلى المشاركين في أشغال المنتدى البرلماني الثاني للجهات، الذي افتتح اليوم الخميس بالرباط.
وفي ما يلي نص الرسالة الملكية السامية التي تلاها، عبد اللطيف المنوني، مستشار الملك:
“الحمد لله، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.
حضرات السيدات والسادة،
يطيب لنا أن نشيد بمبادرة مجلس المستشارين، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وجمعيات جهات وجماعات المغرب، لتنظيم الدورة الثانية لهذا المنتدى، والمخصصة لأحد الإصلاحات الجوهرية والواعدة، التي تم إطلاقها منذ التصويت على دستور 2011 ؛ ويتعلق الأمر بالجهوية المتقدمة.
إن اختياركم لعقد لقاءات دورية للتشاور وتبادل وجهات النظر والنقاش، بشأن تطور هذا الورش المهيكل، ليعكس بحق انخراطكم التام، وإيمانكم بالأهمية القصوى التي نوليها شخصيا لهذا الورش الإصلاحي الكبير ؛ الذي يتوخى إضفاء المزيد من الديمقراطية على تدبير الشأن العام، وضمان تقاطع السياسات الوطنية والقطاعية والترابية، حول الغاية التي حددناها، ألا وهي تحقيق ما يستحقه مواطنونا من تقدم منصف ومستدام، ورفاهية وازدهار.
كما نهنئكم على إدراجكم في برنامج نقاشاتكم، لمواضيع على قدر كبير من الأهمية، فيما يتعلق بإنجاز المهام الموكولة إلى الجماعات الترابية، في انسجام تام مع انشغالاتنا المرتبطة بتقدم مسلسل الجهوية المتقدمة.
حضرات السيدات والسادة
إن الجهوية المتقدمة، تعد مكسبا مؤسساتيا بالغ الأهمية، ينبع من الإرادة الراسخة التي ظلت تحدونا، منذ اعتلائنا عرش أسلافنا الميامين، لقطع أشواط حاسمة على درب إصلاح وتحديث مؤسساتنا. لذا، ينبغي لنا جميعا إيلاء هذا الورش كامل العناية التي يستحقهـا.
وإننا لنسجل اليوم ، أن الآليات القانونية اللازمة لتفعيل الجهوية المتقدمة قد تم اعتمادها في مجملها، وأن المنتخبين بمختلف الجماعات الترابية لم يتوانوا في العمل على تكريس مسلسل الجهوية المتقدمة على أرض الواقع.
أما الآن وقد تم تسطير الأهداف، وتحديد المبادئ والقواعد بوضوح، واضطلع الفاعلون بمهامهم ؛ فإن المرحلة المقبلة ستكون حتما هي بلوغ السرعة القصوى، من أجل التجسيد الفعلي والناجع لهذا التحول التاريخـي.
إنه ورش ضخم، يقتضي انخراط مختلف الفاعلين، والتزام كافة القوى الحية، والهيئات الاجتماعية، في بناء هذا الصرح الكبير، والتحلي بروح المسؤولية العالية، ومواكبة مختلف مراحله بما يلزم من التعبئة والاقناع. كما ينبغي التسلح بقدر كبير من الإصرار، ونهج سبل الحوار والتواصل، من أجل الاستثمار الأمثل للإمكانيات الهائلة التي يوفرها الإطار المؤسساتي والقانوني، والاستفادة من آثاره الايجابيـة.
إن اعتماد هذه البيداغوجية الجديدة، القائمة على مبدأي المسؤولية والتشارك، وتبني هذا النمط الجديد من العلاقات، لمن شأنه أن يمكن منتخبي الجماعات الترابية من السير قدما في دينامية التغيير، ورفع التحديات، وتحقيق تطلعات ناخبيهم، وكذا إعطاء الأجوبة الناجعة لانتظارات المواطنيـن.
أما مرافق الدولة والإدارات العمومية، فإنها مطالبة بنسج علاقات متجددة مع الجماعات الترابية، تقوم على التعاون والحوار، والتشاور والالتقائية والشراكـة. وبذلك سيتسنى لنا ضمان التكامل، وتناسق الجهود، وكذا خلق التفاعلات الضرورية لإنجاز ورش الجهوية المتقدمة، التي وضعناها نصب أعيننا، متطلعين إلى تحقيقها على أرض الواقع.
حضـرات السيـدات والسـادة،
إن المواضيع التي ستعالجونها في هذا المنتدى تتجاوب بحق مع الانشغالات التي أشرنا إليها ، والتي نحثكم على مناقشتها بكل حرية. على أن ترفعوا إلى نظرنا، في الوقت المناسب، ما سيتمخض عنها من مقترحـات. وكل ما نوصيكم به الآن، هو أن تولي مناقشاتكم الاهتمام اللازم لبعض الجوانب الحاسمة، التي ينبغي كذلك أن تأخذها الحكومة بعين الاعتبـار.
ففي المقام الأول، يجب أن تندرج برامج التنمية الجهوية ضمن نموذج التنمية الذي هو في طور الإنجاز، والذي دعونا، في خطابنا يوم 13 أكتوبر، بمناسبة افتتاح السنة التشريعية الحالية، إلى المساهمة فيه بشكل واسع. وبالنظر لمكانة الصدارة المعترف لها بها في الدستور فإن الجماعات الترابية، وخاصة الجهات، مدعوة للعب الدور المتميز المنوط بها وتقديم مساهمتها الخاصة، لتقويم اختلالات النموذج الحالي، بالتخفيف من الفوارق الطبقية والتفاوتات الترابية، والسير بخطى حثيثة وحازمة على درب العدالة الاجتماعية. كما يتعين على كل مجال ترابي، أن يبلور رؤية خاصة به، تنسجم مع الرؤية الشاملة التي يقوم عليها النموذج الوطني للتنميـة.
أما في المقام الثاني، فيتعلق الأمر بالمنتخبين المحليين. فهم مطالبون بالانخراط القوي في معالجة الإشكاليات المرتبطة بالشباب المغربي، المتعطش للمعرفة، والتواق للمشاركة والمساهمة، والمتطلع إلى الكرامة والعيش الأفضل. إن المشاكل التي يواجهها شبابنا اليوم، لا يمكن أن تعالج إلا محليا، أي على مستوى الحي والجماعة والمدينة التي يقيمون فيها.
ذلكم أن السياسات الشاملة التي على الدولة المركزية أن تنهجها لصالح هذه الفئة من المواطنين، لا يمكن تفعيل مدلولها ومضمونها، إلا عبر حلول محلية تتلاءم مع مشاكل الشبـاب.
وفي المقام الثالث، تأتي مسألة امتداد الاختصاصات المخولة للجماعات الترابية، وللمجالس الجهوية على وجه الخصوص. فعلى أي حال، لا يتعلق الأمر بإثقال كاهلها باختصاصات متعددة ومتنوعة، قد تُفضي إلى الإساءة إلى مصداقيتها، بالنظر إلى الخصاص الذي ستعاني منه لا محالة. بل الأجدى من ذلك الحرص على أن تكون تلك الاختصاصات مضبوطة بما يكفي، لتفادي الارتباك والتداخلات وتكرار المهام، وأن تكون هذه الاختصاصات قابلة للتوسع تدريجيا، بموازاة مع نمو مواردها البشرية والمالية. وفي هذا الصدد، ندعو إلى تشاور ناجع لتحديد الاختصاصات التي تتميز بدرجة عالية من الدقة – ضمن تلك المرصودة للجهات في القانون التنظيمي- والتي ستتولاها الجهات في مرحلة أولى، على أن تجرى عليها التحيينات بصفة دورية.
وفي المقام الأخير، هناك جانب نود أن يشمله الفحص والتحليل، ويتعلق بالحكامة. فبغض النظر عن الآليات التي اعتمدتها في هذا الخصوص القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية ؛ فإن تفكيركم وتشاوراتكم، ينبغي أن تساعد على إعطاء مدلول أكثر دقة وواقعية وقابلية للقياس، لمفهوم قوي للحكامة يجب الحرص على تفادي تبخيسه. وهنا يتعين القيام بمجهود بيداغوجي وتواصلي تجاه الناخبين والرأي العام، حتى نستطيع أن نقدر حق التقدير مضمون وبُعد الحكامة، وأهمية الجهود التي يتعين علينا جميعا بذلهـا.
حضـرات السيـدات والسـادة،
إننا على وعي تام بأن ورشا كالجهوية المتقدمة، هو مشروع يمتد على المدى البعيد، يستوجب التحلي بكثير من الحزم لرفع الجمود، واليقظة لمواجهة العقليات المحافظة، والتفاعلية من أجل التكيف والتعديل والملاءمة بكيفية مستمرة.
إن روح هذا المنتدى، في اعتقادنا، تندرج في منطق اليقظة الذي نحن بصدده، وفي سياق التطور الثابت والمتدرج، وكذا التقييم الدوري. لهذا فإن أشغالكم، التي نتمنى أن تتسم بالموضوعية والواقعية والتبصر والجرأة، ستظل محط انتباهنا وتتبعنا.
وفقكم الله وسدد خطاكم،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته”.